عندما يكون القانون في مصر مجرّما

عندما يكون القانون في مصر مجرّما

14 سبتمبر 2020
+ الخط -

خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2020، وعلى الرغم من الأزمات والكوارث التي يشهدها المجتمع المصري على كل المستويات، خرجت السلطة الحاكمة بقانون مشبوه، أطلق عليه أنصاره اسم "قانون التصالح"، وهو القانون رقم 17 لسنة 2019، وتعديلاته بالقانون رقم 1 لسنة 2020، والخاص بالمباني والعقارات التي يقول النظام إنه تم بناؤها بالمخالفة للقوانين، وإنها تمثل اعتداء على أراضي الدولة من ناحية، واعتداء على الأراضي الزراعية من ناحية ثانية. ونصت الإجراءات التنفيذية للقانون على إمكانية أن يتقدّم المخالفون بطلبات للمصالحة مع الحكومة خلال مدة أقصاها ستة أشهر، تنتهي في 30 سبتمبر/ أيلول 2020، ويجوز لرئيس الوزراء تمديدها، وهنا تثار أبعاد وإشكالات عديدة مرتبطة بهذا القانون ودلالات التوقيت.
من الأعراف القانونية الراسخة في معظم الدول أنه لا تطبيق للقوانين بأثر رجعي، وهذا أيضاً نص دستوري، أكد عليه قانون النظام الحاكم في مصر الصادر عام 2014، إذ نصّ عليه في المادة 95، بأن العقوبة شخصية، و"لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون". وينص هذا القانون المشبوه على ملاحقة أصحاب المباني التي تم إنشاؤها منذ 11 مايو/ أيار 2008 إلى 22 يوليو/ تموز 2017، وبافتراض استناد المنفذ إلى القانون رقم 106 لسنة 1976، أو إلى القانون رقم 119 لسنة 2008، فإن الأمر أيضاً لا تقع مسؤوليته الكاملة على كاهل المواطنين، ولكن على كاهل الجهات التنفيذية التي تراخت في تنفيذ أحكام هذا القانون ونصوصه كل هذه السنوات. الأمر الذي يفتح المجال أمام ممارسات الحكومات السابقة، وخصوصاً في عهد حسني مبارك، وطرحت عشرات القوانين غير الدستورية، ونفّذتها فعلياً في مواجهة المواطنين، وبعد أن تستنفد أغراضها من القانون، تقوم بتحريك محامين محسوبين عليها للطعن في دستورية هذه القوانين، وهو ما يرسخ فكرة أنها تضع في كل قانون أسس الطعن عليه، للعمل بها وقتما تشاء وإلغائه وقتما تشاء على حساب مصالح المواطنين وأمنهم الاجتماعي والاقتصادي.

من الأعراف القانونية الراسخة في معظم الدول أنه لا تطبيق للقوانين بأثر رجعي، وهذا نص دستوري، أكد عليه قانون النظام الحاكم في مصر الصادر عام 2014

ومنذ الإعلان عن القانون، وهناك حالة متفاقمة من التضارب في الأرقام والإحصاءات بشأن حجم المخالفات، وكيفية تسويتها، فيصدر تصريح عن الجهاز المركزي للمحاسبات بأنّ هناك 3.7 ملايين مبنى مخالف، ويصدر تصريح عن وزارة الإسكان بأنها 7.4 ملايين مبنى، ثم يأتي رئيس الوزراء ويقول إن 50% من مباني مصر مخالفة، وإنها قد تصل إلى 20 مليون عقار، وإذا ما لم يتم الدفع فهذا يعني أن نصف الشعب سيكون مصيره الشوارع أو السجون تحت طائلة القانون. وذهب إلى أنه تم تحرير 3.7 ملايين محضر مخالفة، وأن من اتجهوا إلى التصالح حتى 1 سبتمبر/ أيلول 2020 بلغوا 370 ألفاً فقط، ولن تدفع الغالبية العظمى أمام اعتبارات عديدة، منها انعدام العدالة في القانون ابتداء، وفي التنفيذ تالياً، وغياب محاسبة المسؤولين المباشرين عن وجود هذه المخالفات خلال عقود ممتدة، وحالة الفقر الشديدة التي يعاني منها الملايين في مصر، وفق إحصاءات دولية، توضح أن حوالي 60% من مواطني مصر دون خط الفقر. إلى جانب قناعة الملايين أن هناك مخالفاً أكبر ومعتدياً أكبر على أراضي الدولة، لم ولن يعاقب، وهو الجيش، ومن بعده الأجهزة الأمنية وبعض المؤسسات القضائية، أي منظومة ما يطلق عليه عبثاً المؤسسات السيادية في الدولة.

 الجهاز المركزي للمحاسبات: يوجد 3.7 مليون مبنى مخالف؛ وزارة الإسكان: 7.4 مليون؛ رئيس الوزراء: 50% من مباني مصر مخالفة، وقد تصل إلى 20 مليون عقار

ومن ناحية ثانية، إذا كانت الحكومة تقول إنها تتوقع تحصيل نحو أربعة مليارات جنيه من غرامات المخالفات، فهل لديها تقدير لحجم المليارات التي سيخسرها ملايين المواطنين جرّاء هدم عقاراتهم وبيوتهم التي أفنى كثيرون فيها حياتهم وسنوات عمرهم حتى يبنوها؟ وإذا افترضنا جدلاً أن هناك 20 مليون مبنى مخالف، كما ذكر رئيس الوزراء، وبافتراض أن الحد الأدنى لتكلفة بناء المبنى الواحد 50 ألف جنيه، فنحن أمام رقم تقديري، يصل إلى تريليون جنيه مصري، والأهم والأخطر من هذا الرقم هو الأضرار الاجتماعية والنفسية التي سيعاني منها المواطنون جرّاء هدم بيوتهم.
يضاف إلى ذلك أمر ثالث، في إطار الأبعاد الاقتصادية، أنه لو افترضنا سداد المواطنين المليارات الأربعة كاملة كما تتوقع الحكومة، فهذا يعني مزيداً من الركود الاقتصادي، لأنه يعني سحباً من أرصدة المواطنين واحتياطياتهم، في وقت تعاني الدولة، بل العالم أجمع، من حالة ركود اقتصادي كارثية أمام تداعيات أزمة كورونا، وفقدان مئات الآلاف وظائفهم، وإغلاق وإفلاس عشرات الآلاف من الشركات، وعودة مئات آلاف من المصريين العاملين في الخارج.
أضف إلى ذلك كم الأموال المهدرة في عمليات (وإجراءات) تنفيذ القانون، وما يشوبها من فساد، فالقانون على سبيل المثال ينص على وجود رسم فحص هندسي، تتراوح تكلفته على المواطن من ألف إلى خمسة آلاف جنيه. ويقول المنطق إنه إذا كانت الحكومة تقول بوجود مخالفات، فهذا يفترض أن لديها رسوماتها الهندسية التي تؤكد هذه المخالفات، أو على الأقل تقوم الإدارات الهندسية التابعة لإدارات الأحياء ومجالس القرى بهذه الرسومات، والتي يعاني منها المواطنون مع المكاتب الهندسية، وتتم إعادتها عدة مرّات أمام تعنت الإدارات الهندسية، والتي تطلب عليها تعديلات عدة مرات.

تتبنّى حكومات نظام السيسي، المتعاقبة منذ 2013، سياسات ممنهجة لإفقار المواطنين وإذلالهم

ثم يأتي باب آخر للمعاناة، وهو تقدير الحكومة أرقاماً للتسوية تتراوح بين 50 إلى 2000 جنيه للمتر الواحد يدفعها المواطن، تختلف باختلاف موقع المباني المخالفة وطبيعتها، يقوم المخالف بدفع 25% مقدماً والباقي على ثلاث سنوات، وهو ما يرهن المواطنين وحركتهم وأعمالهم للحكومة خلال هذه السنوات، أو يدور خلفها في المحاكم وأقسام الشرطة، في ملاحقات ومتاهات لن يخرج منها.
وفي الأبعاد السياسية، تتبنّى حكومات نظام عبد الفتاح السيسي، المتعاقبة منذ 2013، سياسات ممنهجة لإفقار المواطنين وإذلالهم، ليس هذا فحسب، ولكن أيضاً إدخالهم في سلسلة من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والقانونية والأمنية التي لا تنتهي، وأحد أهم أبعاد إصدار هذا القانون (وغيره) أن يكون على كل مواطن حكم قضائي، يكون بمثابة السيف فوق رقبته، يتم استخدامه من جانب النظام متى شاء لردع المواطنين وقهرهم، وإلا ماذا يعني تحويل أصحاب 20 مليون مبنى إلى النيابة، جرّاء مخالفاتٍ مرّت عليها عشرات السنوات؟ وماذا يعني تحويل 50 مليون مواطن إلى النيابة، بدعوى عدم مشاركتهم في مسرحية انتخابات ما سمي مجلس الشيوخ، وقس على ذلك الكثير والكثير.

أكبر المخالفين الجيش، ومن بعده الأجهزة الأمنية، وبعض المؤسسات القضائية، أي منظومة ما يطلق عليه عبثاً المؤسسات السيادية في الدولة

أضف على ذلك استخدام النظام ورقة الهدم وإزالة المخالفات، لترسيخ الفتنة الدينية والطائفية في المجتمع المصري، وإلا ما دلالة تأكيد رأس النظام أنه تم هدم 30 مسجداً، وسيتم هدم 70 أخرى، في وقت يتم الحفاظ على كنائس تم بناؤها بالمخالفة أيضاً بتصريحات رسمية من أطراف محسوبة عن حكومة النظام.
وبُعد ثالث، شديد الدلالة، يتمثل في إعلان السيسي وتهديده بنشر الجيش في كل قرية وفي كل مدينة لتنفيذ القانون وهدم المباني المخالفة، وهو ما يعني تغول الجيش على مقدّرات المواطنين، وعسكرة ثرواتهم وحياتهم، ليس هذا فقط، بل الأخطر من ذلك هو تحويل الجيش من مؤسسة وطنية لها مهامها المقدّسة إلى أداة لهدم البيوت فوق رؤوس ساكنيها بقوة الدبابة وقهر السلاح.
وبعد...، ليس هذا القانون للتصالح، ولكنه للجباية، للقهر، للإذلال، لانتهاك ما تبقى من حقوق المواطنين وكرامتهم، في وقت يفشل فيه النظام في إدارة كل ملفات السياستين الداخلية والخارجية، فيصب غضبه على الفقراء وغير القادرين، لتعويض إخفاقاته ودفع فاتورة فشله المستمر، في وقت تترسّخ فيه منظومة الفساد العسكري والأمني والسياسي لصالح النافذين العاملين في كنف النظام، والذين لا يعنيهم بأي حال أمن الدولة أو كرامة المواطن، أو استقرار المجتمع وسلامه الاجتماعي، ولم لا، وقد تحولت كل مؤسسات الدولة إلى أذرع لفرض الهيمنة وترسيخ الاستبداد والاستعباد.

A57B9A07-71B2-477E-9F21-8A109AA3A73D
عصام عبد الشافي

باحث وأكاديمي مصري، دكتوراه الفلسفة في العلوم السياسية، يعمل أستاذاً للعلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة رشد التركية، من مؤلفاته: البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه المملكة العربية السعودية (2013)، السياسة الأمريكية والثورة المصرية (2014).