عندما يرى الاحتلال كورونا في غزة أزمة أمنية

عندما يرى الاحتلال كورونا في غزة أزمة أمنية

18 يونيو 2020
+ الخط -
يعني العيش في قطاع غزة قضاء الحياة في بيئة مضطربة ومتوترة، كونها منطقة نزاع مسلح، وتتعرّض لسياسات غير منصفة من الاحتلال الذي يُحكم قبضته على كل مناحي الحياة. ووفقا للقانون الدولي الإنساني، تعد هذه المنطقة خاضعة للاحتلال، ما يعني وجود نزاع مستمر فيها، وفي أي لحظة يمكن أن يتعرّض المدنيون لخطر الموت أو الإصابة، فضلا عن حالة الفقر وسوء الأوضاع الاقتصادية. الحياة هناك أشبه بسجن كبير والحصار المفروض ضد المدنيين من الاحتلال الإسرائيلي يزداد سوءا كل يوم. 
وفي ظل استمرار جائحة كورونا، لا تزال دول متقدمة غير قادرة بأنظمتها الصحية المتينة على مواجهة الأزمة، إلا أن وضع قطاع غزة، بوصفه منطقة محتلة، يفرض على الاحتلال الإسرائيلي مجموعة من الالتزامات والواجبات، المتمثلة في التدخل لتقديم الإمدادات الصحية اللازمة لمواجهة الوباء، غير أن ممارساته تجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبخاصة قطاع غزة، تدلل على العقلية الاستعمارية القائمة على الهيمنة والابتزاز في التعامل مع الأزمة في القطاع. وهنا لا تدّعي هذه المقالة أن ممارسات الاحتلال الإسرائيلي مختلفة عن بقية الأراضي المحتلة مثل الضفة الغربية والقدس، ولكنها تركز الاهتمام على قطاع غزة كحالة دراسية، وكجزء من أرض فلسطين ككل.
الحديث عن مكان خاضع للاحتلال ويعاني من الحصار، وليس عن نزهة أو قصة خيالية، بل عن حقوق مسلوبة واضطهاد وفصل عنصري وعزل وإغلاق وبيئة سياسية واقتصادية واجتماعية
 شديدة التعقيد. وتاريخيا، لم تتحرّك القوى الاستعمارية لإنقاذ الخاضعين تحت سلطانهم، إلا في حالاتٍ تتعلق بمصلحة المستعمِر، منها، على سبيل المثال، الخوف من تفشي الوباء بينهم، أو على اقتصادهم، أو لإجراء التجارب عليهم. ولا تختلف ممارسات الاحتلال الإسرائيلي ضد غزة كثيرا عما كانت القوى الاستعمارية قديما تمارسه ضد السكان المستعمَرين، فضلا عن أن ترك المدنيين بهذه الصورة يواجهون خطر الوباء في ظل الإمكانات، شبه المعدومة أصلا في القطاع، يعد جريمةً تضاف إلى سلسلة الجرائم التي تُرتكب بحق المدنيين الخاضعين تحت الاحتلال أو الاستعمار.
يعاني قطاع غزة من نقص وتدنٍ في مستوى الاستجابة لوباء كورونا، وتقرّ الأمم المتحدة بذلك، فقد حذرت من سوء الأوضاع الصحية هناك، وطالبت المسؤولين، وخصوصا الاحتلال الإسرائيلي، بتحمّل التزاماته المترتبة على احتلال قطاع غزة وفقا للقانون الدولي، إذ تمارس إسرائيل سيطرة برّية وبحرية وجوية على قطاع غزة، وبالتالي فهي تتحمّل التزاماتها المنصوص عليها في القوانين التي تنظم "احتلال عدو أرضا ما"، مثل اتفاقيات لاهاي واتفاقية جنيف الرابعة لحماية المدنيين.
ومنذ اللحظات الأولى لاكتشاف إصابات بفيروس كورونا في 15 مارس/ آذار الماضي، سجلت وزارة الصحة الفلسطينية في غزة 61 حالة مؤكدة، منها 18 حالة شفيت، وحالة وفاة واحدة، ليصبح عدد الحالات الموجبة 42 حالة. بينما وصل عدد الأشخاص المحجورين إلى 1.087 حالة لم تظهر عليهم أعراض الوباء، موزعين حاليا على 11 مركز حجر صحي خاص، في جميع المحافظات ضمن مراكز حجْر صحي في المدارس والفنادق والعيادات والمستشفيات. وعلى الرغم من النجاح النسبي لدى وزارة الصحة في إدارة الأزمة، إلا أن النقص في المعدّات الطبية والأدوية والكوادر المدربة كان واضحا حتى قبل بداية الأزمة. إذ يتوفر لدى وزارة الصحة جهاز فحص لكل 33 ألف مواطن، فضلا عن أن العجز في الأدوية والمستهلكات قد يصل، في بعض الأحيان، إلى 50 %، أضف إلى ذلك النقص الحاد في المستلزمات الأساسية، مثل الاختبارات ومعدات الوقاية الشخصية وأجهزة التنفس ومستلزمات وحدات العناية المكثفة، بسبب الفجوة في التمويل والنقص في الإمدادات العالمية، وذلك وفقا لمنظمة الصحة العالمية.
علاوة على ما سبق، تورد نورا عريقات، في كتابها "العدالة للبعض.. القانون والقضية 
الفلسطينية"، إنه منذ العام 2004، وتحديدا بعد خطة إعادة الانتشار التي نفذتها إسرائيل في قطاع غزة، شن الاحتلال الإسرائيلي 24 حملة عسكرية عدوانية على قطاع غزة، كان منها حرب صيف 2014 التي سميت عملية الجرف الصامد. أدت العملية إلى شلل في كل مناحي الحياة الاقتصادية وضرب البنية التحتية للقطاع بالكامل. والآن في العام 2020، بعد مرور أكثر من 53 عاما على احتلال قطاع غزة بما فيها الضفة الغربية والقدس، يهدّد وباء كورونا حياة أكثر من مليوني نسمة في القطاع. هذه المنطقة، ونتيجة تعرّضها للعزل التام منذ أكثر من عقد ونيف غير جاهزة بالمطلق لمواجهة هذه الجائحة.
وتلاحظ هنا المنطلقات الاستبدادية المتطرّفة التي يتعامل بها الاحتلال الإسرائيلي مع قطاع غزة، في ظل وجود خطر محدق من تفشّي الوباء، إذ لا يزال الحصار مفروضا من دون أي تحسّن ملموس على حركة الأفراد والبضائع، فيما يفاقم استمراره حالة السقوط المستمرة في الأوضاع الإنسانية، ويترك آثاراً خطيرة على كل مناحي الحياة. بل أبعد من ذلك، حيث يتعامل الاحتلال مع القطاع أنه "تهديد أمني"، وهذا واضح في قول وزير الدفاع الإسرائيلي، نفتالي بينيت، إن "تقديم مساعدات إنسانية لقطاع غزة بهدف مواجهة تفشي فيروس كورونا مربوط باستعادة جنديين مفقودين منذ العام 2014، وتعتقد إسرائيل أنهما قتلا". كما وتعتبر المؤسسة العسكرية الإسرائيلية أن تفشي وباء كورونا في قطاع غزة مسألة أمنية وتشكل خطرا على إسرائيل، سيما وأن انتشار المرض وفقا لهم قد يفضي إلى اندلاع احتجاجات ومظاهرات وهبّة شعبية إذا ما ساءت الظروف. ووفقا لتقرير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان في غزة، الصادر في 4 يونيو/ حزيران الحالي، لم يتوقف الاحتلال أيضا عن إطلاق النار نحو الأراضي الزراعية وتجاه قوارب الصيادين شرق قطاع غزة وغربه، فهو لا تعنيه حياة السكان، ولا ظروف عيشهم، بقدر ما يعنيه أمنه ومصالحه، حتى ولو كانت تمثل خرقا واضحا للقانون الدولي، وحتى ولو كانت ممارساته ضد الفلسطينيين هي الأسوأ في التاريخ.
يناقش الكاتب والمؤرخ الأميركي، ديفيد أرنولد، في كتابه "الطب الإمبريالي والمجتمعات المحلية" مسألة العلاج أداة بيد القوى الاستعمارية، فيذكر "أن الاستعمار لم يقف فقط عند حد نشر المرض؛ بل رأى فيه ما يمكن أن يستغله لدعم مصلحته، فكان نشر الأطباء في المناطق الموبوءة بغرض تفادي العجز في الأيدي العاملة في الزراعة والصناعة والتعدين من جرّاء الأوبئة، ولحماية السكان الأوروبيين من العدوى، فكانوا يعالجون بالقدر الذي يحفظ لهم الحد الأدنى من القوى العاملة، وإنْ لم تكن هناك حاجة لهم فلا داعي للعلاج".
قد يختلف السياق هنا قليلا عما يطرحه أرنولد في كتابه، إلا أن الاحتلال الإسرائيلي في تعامله 
مع قطاع غزة لا يقل وحشيةً وانتهازيةً، عما كانت تفعله وتمارسه القوى الاستعمارية سابقا. يمكن الإشارة هنا إلى المادة رقم 55 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب لعام 1949 التي تنص أن "من واجب دولة الاحتلال أن تعمل، بأقصى ما تسمح به وسائلها، على تزويد السكان بالمؤن الغذائية والإمدادات الطبية، ومن واجبها على الأخص أن تستورد ما يلزم من الأغذية والمهمات الطبية وغيرها، إذا كانت موارد الأراضي المحتلة غير كافية". بدلا من ذلك، يمارس الاحتلال الإسرائيلي أسلوب الابتزاز مع قطاع غزة، ويتعامل مع أزمة كورونا على أنها أزمة أمنية، على الرغم من أن معظم المصائب الموجودة في المنطقة ناتجة من الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي التي ارتكبها هذا الاحتلال ولا يزال يرتكبها من حروبٍ متكرّرة وقصف عشوائي وعزل وتدمير للبنية التحتية، .. إلخ.
غزة، باختصار، تعني لإسرائيل "قنبلة موقوتة"، كما وصفها أحد القادة الإسرائيليين، وبالتالي يجب إعداد خطّة مسبقة لردع وقمع أي نوع من الاحتجاجات أو المقاومة بقوة إذا تطلب الأمر، حتى ولو كانت المسألة ليست أمنية، مثل جائحة كورونا. وهذا يعود بنا إلى الوراء، إذ إن غزة في نظر الاحتلال الإسرائيلي "سرطان"، ما يوجب استخدام السلاح الكيميائي للتخلص منها. وبهذا التعامل مع قطاع غزة، والأراضي الفلسطينية المحتلة ككل، يكرّر الاستعمار الصهيوني التاريخ في الطريقة السيئة التي تعاملت بها القوى الاستعمارية في العصور القديمة مع تفشّي الأوبئة في المستعمرات، حيث مسألة التصدّي للوباء ليست إنسانية، بل تخضع لمصلحة المستعمِر وأمنه فقط.
276DA5C1-6119-48BE-9A87-1B5D13C3231E
276DA5C1-6119-48BE-9A87-1B5D13C3231E
وديع محمود العرابيد

كاتب وباحث فلسطيني في القانون والعلوم السياسية والنزاعات الدولية وحل النزاعات

وديع محمود العرابيد