عندما تُحكم أميركا بمنطق العصابات

عندما تُحكم أميركا بمنطق العصابات

08 نوفمبر 2019
+ الخط -
من يتابع مجريات تحقيق مجلس النواب الأميركي في فضيحة ضغط الرئيس دونالد ترامب على نظيره الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، من أجل إجراء تحقيق يطاول منافسه الديمقراطي المحتمل، جو بايدن، وابنه، بتهم فساد، ينتهي إلى انطباع أَوَّليٍّ، مفاده بأن الولايات المتحدة تدار بمنطق العصابات، بل إنها محكومة من عصابة اليوم. يؤكد هذا المعطى نص المحادثة الهاتفية التي نشرها البيت الأبيض الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، وتشير بوضوح، وإن لم يكن بشكل قاطع، إلى أن ترامب رهن أربعمائة مليون دولار من المساعدات العسكرية لأوكرانيا، أقرها الكونغرس، في مقابل إطلاق ذلك التحقيق، بهدف المسِّ بحظوظ بايدن الانتخابية، في حال كان هو المرشح عن الحزب الديمقراطي. 
ومنذ تفجر الفضيحة مطلع الشهر الماضي، توالت الشهادات أمام مجلس النواب من مسؤولين كبار، حاليين وسابقين، يعملون في البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية، تؤكد أن ترامب حاول فعلا ابتزاز زيلينسكي، عبر ممثله ومحاميه الخاص، رودي جولياني، والذي لا يحمل أي صفة رسمية. جولياني هذا كان المدعي العام للمقاطعة الجنوبية في نيويورك بين أعوام 1983-1989، ثم انتخب رئيسا لبلدية المدينة بين أعوام 1994-2002، وقد عرف بصرامته في التعامل مع عصابات الجريمة المنظمة في نيويورك، ثم حمل لقب "عمدة أميركا" تقديرا لقيادته الحازمة خلال هجمات "11سبتمبر" في العام 2001 على نيويورك وواشنطن. إلا أن شهادات مسؤولين أميركيين، بما فيها شهادة السفير الأميركي إلى الاتحاد الأوروبي، غوردون صوندلاند، تقدّم جولياني اليوم أنه أقرب إلى رجل العصابات منه إلى رجل القانون الذي حاربها. ينطبق الأمر نفسه على ترامب الذي لا يستبعد أن لديه تاريخاً حافلاً في التعامل مع العصابات في نيويورك، كرجل عقارات نافذ فيها.
ولكن إذا كان جولياني مكشوف الظهر أمام تحقيقات مجلس النواب والسلطات الفدرالية والولائية 
في نيويورك، فإن ترامب يحتمي وراء منصبه الرئاسي، وهذا ما يعقّد مسألة محاسبته جنائياً، بعيداً عن السياسة. يضيق الحبل حول رقبة جولياني اليوم، خصوصاً بعد شهادة القائم بالأعمال في السفارة الأميركية في كييف، وليام تايلور، أن الأوامر للضغط على الأوكرانيين كانت تأتي منه شخصياً، باسم ترامب. بل يبدو أن جولياني لعب دورا مركزياً في قرار ترامب إعفاء السفيرة الأميركية السابقة، ماري يوفانوفيتش، من منصبها في كييف، بسبب عدم حماستها واعتراضها على ربط المساعدات العسكرية لأوكرانيا بهدف التصدي للتهديدات الروسية بإسداء خدمة سياسية وانتخابية لترامب.
لا يوجد جدال أن هذه التهم، إن ثبتت على ترامب، فإنه يكون قد ارتكب مخالفة دستورية، وحنث بالقسم الرئاسي، وهو ما يستوجب أن يعزله مجلس النواب، وأن تتم إقالته في مجلس الشيوخ. وفي حين يملك الديمقراطيون إمكانية توجيه لائحة اتهام إلى الرئيس (العزل) بأغلبية 51% في مجلس النواب، فإنهم يحتاجون إلى ثلثي أصوات أعضاء مجلس الشيوخ (67 من أصل 100) الذي يسيطر عليه الجمهوريون لإقالته. المشكلة هنا أن الجمهوريين لا يبدون في وارد التصدّي لمنطق العصابات الذي يتبعه ترامب في إدارة شؤون الولايات المتحدة، بما في ذلك الخلط بين مصالحه التجارية ومهماته الرئاسية. وكما سبق أن أشار مقال سابق للكاتب، ما دام ترامب يحظى بشعبيةٍ كاسحةٍ بين قواعد الحزب الجمهوري، لن يتجرأ أغلب ممثليه في الكونغرس على تحدّيه، وهذا يخلّ بمنطق نظام التوازنات بين السلطات الثلاث، التشريعية والقضائية والتنفيذية، الذي يقوم عليه الدستور الأميركي، وبالتالي يوفر طوق نجاة لترامب أمام كل إساءة في استخدام السلطة. يضاعف من حجم المعضلة أن فتوى قانونيةً كانت صدرت عن وزارة العدل عام 2000، نصت على أنه لا يمكن توجيه تهم جنائية لرئيس أميركي خلال توليه منصبه. وعلى الرغم من أن هذا الرأي لم يخضع بعد لفحص دستوري، فإن الحزبين الحاكمين ملتزمان به، ولولا ذلك لكان ترامب اليوم في السجن، أو على الأقل يقف أمام محكمةٍ يواجه فيها تهماً قانونية لا تخضع إجراءاتها للموازنات والحسابات السياسية.
إذا أثبتت رئاسة ترامب شيئاً فإنها أثبتت أن ديمقراطية عظيمة، كالديمقراطية الأميركية، يمكن أن تختطف. قد يجادل بعضهم محقاً بأن ترامب ليس أول رئيس يختطف هذه الديمقراطية ويتلاعب 
بها، فقد سبقه رؤساء آخرون، لعل آخرهم جورج بوش الابن الذي فبركت إدارته أدلة مزيفة على امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، قادت إلى غزوه واحتلاله عام 2003. ولكن بوش لم يختطف الديمقراطية الأميركية من أجل خدمة مصالح شخصية وانتخابية له، بقدر ما أنه كان اختطافاً لخدمة أجندات إيديولوجية وعسكرية. أما ترامب، فإنه يريد تجيير الديمقراطية الأميركية لخدمة مصالحه الشخصية والسياسية، وهو في ذلك يسير على خطى الرئيس الجمهوري الأسبق، ريتشارد نيكسون، والذي استقال قبل أن يُقال، عام 1974، بعد تفجر فضيحة تجسّسه على مقر الحزب الديمقراطي في مبنى ووتر غيت، وهو ما ساعده في الفوز لفترة رئاسية ثانية حينها.
الفرق بين ترامب ونيكسون أن هذا الأخير وجد نفسه أمام كونغرس متمسّك بدوره الدستوري القائم على توازن السلطات، في حين أن الجمهوريين في الكونغرس اليوم، إما أنهم أفراد في عصابة ترامب، أو متواطئون معها، أو خائفون منها. والنتيجة أنهم هم أنفسهم يحنثون باليمين التي أقسموها، ونصها الحرفي: "أقسم (أو أؤكد) رسمياً أني سأؤيد وأدافع عن دستور الولايات المتحدة ضد جميع الأعداء، أجانب ومحليين؛ وبأني سوف أحمل إيماناً حقيقياً وولاء لذات الأمر (الدستور)؛ وبأني أتحمّل هذه المسؤولية بمحض إرادتي، من دون أي تحفظ عقلي أو نية تهرب؛ وبأني سأؤدي واجبات المكتب الذي سأدخل إليه بإخلاص وعلى أحسن وجه: فليساعدني الله". هذا قسم قد حنث جمهوريون كثيرون به، وبالتالي أصبحوا هم أنفسهم أعداء محليين لهذا الدستور الذي تعهدوا بحمايته منهم، وبهذا أيضا ندرك كيف تمكّن الزعيم النازي، أدولف هتلر، أن يختطف بلداً مثل ألمانيا في ثلاثينات القرن الماضي عبر آليات ديمقراطية.