عندما تنتهك الدولة المصرية الحق في الصمت

عندما تنتهك الدولة المصرية الحق في الصمت

03 سبتمبر 2020

عسكري مصري أمام مركز اقتراع في انتخابات مجلس الشيوخ في القاهرة (11/8/2020/فرانس برس)

+ الخط -

في سابقةٍ هي الأولى، الدولة المصرية تختصم نصف الشعب، فبعد تدنّي نسب المشاركة في انتخابات الشيوخ (8 ملايين و959 ألفا بنسبة 14%)، أصدرت لجنة الانتخابات بيانا بتحويل المتخلفين عن التصويت (54 مليونا من أصل 62 مليونا و940 ألفا) إلى النيابة. وتبدو هنا معالجة المشكلة، في طابعها العقابي، تحمل قدرا من فانتازيا سينمائية سوداء، وتبرز تناقض ممارسات النظام، فهو يفرض الصمت، ويحاصر المجال العام. وفي الوقت نفسه، يطالب بفاعلية للمواطنين ومشاركة في الانتخابات، ويلوّح بالعقاب إن لم يشاركوا فيها، ويعاقبهم على غيرها من أنشطة سياسية. المشاركة القسرية في الانتخابات غير ممكنة إلا في حدود ضيقة، والعقاب والغرامات المالية لاستعادة المشاركة الشعبية لن تجدي، ولا تفعل عمليةً سياسيةً تعاني حالة موات.

أسباب عدّة لتدنّي نسب المشاركة السياسية عموما في التجارب السابقة، منها المعاناة الحياتية، وعدم الشعور بجدوى المشاركة وتأثيرها، عبر الإحساس بالإحباط وفقدان الأمل في التغيير. هذا يجعل الانخراط في أي نشاط اجتماعي أو سياسي محدودا. المشاركة في الانتخابات بوصفها جزءا من المشاركة السياسية الرسمية، سواء بالتصويت أو الترشح، تتعلق أيضا بالإجراءات المنظمة وطبيعة النظام الانتخابي، فضلا بالطبع عن حالة الحريات وأوضاع الأحزاب والكتل السياسية وفاعلية المجتمع المدني.

ليس كل مُقاطع معارضا للسلطة. اعتبر مصريون أن أصواتهم غير ذات أثر في تشكيل مجلس الشيوخ

ومع التسليم بأن ليس كل مُقاطع معارضا للسلطة، فإن هؤلاء وغيرهم اعتبروا أن أصواتهم غير ذات أثر في تشكيل مجلس الشيوخ، فمن ناحيةٍ اختير ثلث المجلس قبل الانتخابات عبر قائمةٍ لا منافس لها، وثلث ثانٍ معين من رئيس الجمهورية، والثلث الأخير لا يلمح بين المرشحين فيه تمايزا سياسيا واجتماعيا، يمثل حافزا للتنافس والتصويت. وهناك عدة ظواهر دفعت إلى انصراف المصريين عن التصويت في الانتخابات، منها عودة رجال المال والأعمال إلى التحكّم في العملية الانتخابية، بالإضافة إلى ملامح التوريث السياسي عبر علاقات القرابة والمؤسسات، رجال أعمال رشحوا أبناءهم، وعائلات رشّحت صفا ثانيا يُكمل مسيرتها السياسية التي تعطلت بعد يناير/ كانون الثاني 2011. لعب هذا كله دورا في تجاهل التصويت والانتخابات عموما. وعلى الرغم من اختلافاتٍ بين أجواء انتخابات مجلسي الشورى 2012 والشيوخ 2020، إلا أن هناك تشابهات يمكن من خلالها فهم جانبٍ من تدني نسب المشاركة، منها أن ثلثاً في كل من المجلسين معين، بالإضافة إلى أن وظائف المجلسين متشابهة. كما أن مخرجات قانون مباشرة الحقوق السياسية ونظام القائمة المطلقة تهدر الأصوات، وتمهد الطريق إلى هيمنة كتل سياسية، وتحدّ من مشاركة المكونات ذات الوزن المحدود نسبيا. وقد أقرّ قانون مباشرة الحقوق السياسية 54 لعام 2014 عقوبةً للمتخلفين عن التصويت. إنه يستدعي مواطنين إجباريا للتصويت، ويعاقب الممتنعين عن المشاركة، بينما يتم تضييق الخناق على أشكال التعبير والمشاركة في المجال العام. وتكفي هنا الإشارة إلى مئات القضايا التي تضم متهمين بترويج الأكاذيب، بسبب منشور على "فيسبوك" أو تغريدة على "توتير".

أسباب عدّة لتدنّي نسب المشاركة السياسية في التجارب الإنتخاببة السابقة، منها عدم الشعور بجدوى المشاركة وتأثيرها، عبر الإحساس بالإحباط وفقدان الأمل في التغيير

في البرلمانات، بما فيها مجلس النواب المصري، للأعضاء الحق في الامتناع عن التصويت في الجلسات، بينما يُعاقب المواطن إذا مارس الحق نفسه في الانتخابات، على الرغم من محدودية تأثير دوره، قياسا بدور النواب الرقابي والتشريعي. ويشكل ذلك تمييزا، وينفي حق الاختيار، كما للمتهمين الحق في الصمت أو الامتناع عن الكلام في أثناء التحقيقات، ويُنتزع من بعض المتهمين الاعتراف تحت ضغوط العنف الجسدي والنفسي. وعلى الرغم من أن النظم السلطوية لا تحب سماع صوت مختلف، وتضيّق سبل التعبير عن الرأي، إلا أنها تريد أن تنتزع اعترافا بشرعيتها من خلال حشد المشاركة في العملية السياسية، أي تنتزع الأصوات بالعقاب القانوني، وكأنها تمتلك صوتك في الانتخابات، وجسدك في السجن، وقوة عملك في السوق. وإذ تقدّم لك الخدمات، يمكنها تحديد المبالغ وزيادتها، طالما لا توجد أطر لتحديدها، غير أنها تحبّ التفنن في فرض الضرائب والغرامات، لجمع حصيلة مالية للموازنة، بعد أن انتهت مساومات ومزايا اجتماعية في مقابل قبول السلطوية، فيصبح النمطان، الإفقار والاستبداد، صنوين.

النظم السلطوية لا تحب سماع صوت مختلف، وتضيّق سبل التعبير عن الرأي، إلا أنها تريد أن تنتزع اعترافا بشرعيتها من خلال حشد المشاركة في العملية السياسية

غالبا ما تكرّر وسائل الإعلام، وتشدد على ضرورة المشاركة في الانتخابات، وتصفها بأنها "عرس ديمقراطي". وعلى الرغم من أن هذه العبارة المكررة دعائية، إلا أنها تمس جانبا من السياسة أنثروبولوجيا، وتتضمن عمليات اتصال وتفاعل وضبط اجتماعي وعلاقات قوة ونفوذ. هل يُتصوّر أن يقام عرس بدون مدعوين للحفل؟ وإذا كان "العرس" محدود المشاركة، ربما يُشعر صاحبه بالإهانة، خصوصا إذا كان يهدف إلى كسب شبكة علاقات جديدة، وتقوية الصورة الذهنية عن النفوذ والعزّة والسطوة، كما أن "محبة المدعوين للعرس" يعكسها حضورهم. وإذا لم يوفق في مناسبةٍ، يشدّد الدعوة في مناسبة قادمة، لكن الغريب أن يهدّد من لم يحضر، قد يجتمع جمهور المغانم والمصالح والمجاملات، لكن بقاءه لا يدوم.

للتصويت، باعتباره خطوة اتصالية ضمن الممارسة السياسية، صفة اختيارية وإرادية، وأهداف ووظائف. كما أن التصويت رأي مقولب، ضمن صور المشاركة السياسية. وإذا لم يجد الفاعلون أن وسيط الاتصال (قواعد عملية الانتخاب ومضمونها) يمثل وظيفة وقيمة مؤثرة في البناء السياسي، وأن مخرجاته ذات جدوى فسيمتنعون عن التصويت، سواء كان الامتناع يُنظر إليه انسحابا عفويا نتاج إحساسٍ بالإحباط، أو مخططا ومستندا إلى رؤية، والبناء عليها أو خليط من الحالتين. وقد أرادت السلطة من مجلس الشيوخ إعادة تدوير النظام السياسي، عبر دمج مكونات سياسية واجتماعية داخل مؤسساتها، وهذا استلزم جمهورا لا يمكن أن يستدعي منه ملايين بالأمر المباشر، أو التهديد، وإذا كانت العقوبات والضغوط تصنع مشهدا انتخابيا، فغالبا سيكون مؤقتا ومحدودا.

تدنّي نسب المشاركة في انتخابات مجلس الشيوخ لم يكن نتيجة جهود قوى دعت إلى المقاطعة

إجمالا، هناك أسباب عامة لتدنّي مستوى المشاركة، بالإضافة إلى أسبابٍ في سياق تجربة مجلس الشيوخ، ولا يجدي التفسير الجاهز عن المتآمرين، أعداء الوطن، ودعاوى الخارج إلى المقاطعة، فالمتابع للمشهد يستطيع الاستنتاج أن تدنّي نسب المشاركة لم يكن نتيجة جهود قوى دعت إلى المقاطعة من خارج مصر أو داخلها. لا الإخوان المسلمون أو الحركة المدنية بذلوا جهدا ذا وزن، ولا يستطيع كلاهما الادّعاء بتحريك كتل جماهرية مليونية، أو التأثير فيها، كما في سنوات مضت. قاطع الممتنعون بمفردهم، وبعضهم لم يهتم أصلا بالانتخابات، وبعض فئاتٍ فوجئت بها، حين أراد النظام إجراءها بسرعة، كما يستعجل إجراء انتخابات النواب بالطريقة نفسها. وربما تشابه التشكيلة السياسية التي تشكلت بعد تعديلات الدستور، بالإضافة إلى أن تكرار وسائل الإعلام أن الشعب مسيّر من قوى خارجية متآمرة، فضلا عن أنه غير صحيح، فهو يشكل إهانة لمن تدعوه إلى المشاركة.. المشاركة ليست فعلا قسريا يمكن تحقيقه بضغوط، أو أوامر وعقوبات سلطوية.

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".