عندما بكى جلجامش

عندما بكى جلجامش

09 نوفمبر 2015
+ الخط -
يزور تمثال جلجامش المهيبُ الحجمِ متاحفَ الأرض، محتضناً أسداً على صدره، وقابضاً على رأس أفعى بيده، دلالةً واضحةً على بأس ملك أوروك قاهر وحوش الفلاة.
يستحضر التمثال لزائريه صفات هذا الملك العتيّ، عظيم البنيان فاق ملوك الأرض صيتاً، ويبرزالتمثال ملكاً متفوقاً بهيئة جسمانية لا نظير لها بين البشر، مشدداً بذلك على الجانب الإلهيّ للملك الذي جُبِلتْ طينته من ثلثين إلهيين وثلث بشريّ.
على خلاف التمثال، لا تكتفي الملحمة بإبراز التفوق الجسديّ لجلجامش، بل تزيد عليه للقارئ بوصفٍ وتحليلٍ نفسانيّ عميقٍ لصفات الملك السيكولوجية أيضاً. فجلجامش العظيم ليس إلّا ملكاً ظالماً مضى في غيّه لأهل أوروك ليل نهار عبر إيقاظهم على قرع الطبول، مستبدّاً لا يترك بِكراً لأمّها، ما دفع الرعية لأن تشكو راعيها الظالم للآلهة التي خلقت له نداً قوياً أسمته "إنكيدو"، فقرر أن يكبح جماح ملك أوروك، وتصارع البطلان، ليعقدا بعدها صداقةً وأخوةُ لا مثيل لها.
شكّل مجيء إنكيدو لأوروك المنيعة أولى نقاط الإنعطاف في شخصية الملك في لحظة تبدلٍ سيكولوجيّ واضحٍ في معالم البطل النفسيّة الذي ملأته رغبةٌ جارفةٌ بمحاربة الشّر، متمثلاً في خمبامبا الرهيب حارس غابة الأرز، فانطلق جلجامش محارباً صنديداً ليصرعه مع صديقه إنكيدو.. لا يتعب جلجامش ولا يلين محققاً انتصاراتٍ متتاليةً، فيبدو أنّه عصيّ على الهزيمة لا يُقهر، قويّ في وجه الأهوال لا يرتعد. فكيف يكون للوهن و الكمد طريقٌ لقلب جلجامش وجسده الذي تفوّق ثلثاه الإلهيان على ثلثه البشريّ! لكن قلبه الجذل المغرور بالصبا والقوة والجمال بدأت تدّبُ فيه أولى إرتعاشات الخوف والرهبة من الموت و الفناء بعد أن أعلنت الآلهة القرار بموت إنكيدو.
وهنا، تكون العبرة الحقيقية في الأسطورة والتحول الصارخ في حياة جلجامش الملك. عندما مات إنكيدو خارت قواه وفاض قلبه حزناً... عندها بكى جلجامش ثلثه البشريّ وفناءه، وسافر في رحلة أسطورية إلى دلمون، ليكتشف حقيقة بسيطة وعظيمة تتمثل بأن سرّ الخلود يكمن بالعمل الصالح والذكر الطيب، فقبض على حكمة الحياة ليقدمها للأجيال التي سكنت الأرض، وحفظها في "رقيم لازورديّ"، تحت أسوار أوروك المنيعة.
لا تزال حكمة جلجامش ترنّ في الأصداء، لكن طغاة الأرض لا يسمعونها، فالجهل بدروس التاريخ من سمات الدكتاتوريّة والقمع والترهيب، والدمار من إنجازاتها أيضا، فالدكتاتور، وعلى خلاف جلجامش البشريّ/ الإلهيّ الذي خلع عن نفسه رداء السلطان، وتوقف عن ظلمه لشعبه، موهومٌ بألوهيّته المطلقة، متمسكٌ بعصا السلطة حتى فناء آخر فرد من شعبه، خائفٌ من نسمات التغيير لأنها عواصف تهزّ عرشه الورقيّ.
وعلى مسامع الدكتاتور- وكلّ دكتاتوريات الأرض- نسرد أبلغ ُ ثلاثة أسطر من أقدم ملحمة في التاريخ: "في بيت التراب حيث دخلت/ رأيت الملوك وقد نُزعت تيجانها/ تيجان حكمتْ البلاد منذ القدم".
ألم يحنْ لك أيها الظالم الطاغي أنْ تعرف أن أعظم ملوك الأرض كان قوياً لا بظلمه واستبداده لشعبه ولا بإنجازته التي فاقت قدرات البشر، بل بقدرته على التغيير من الاستبداد للعطاء ومن الظلم للصلاح؟ ألم يحنْ لك أنْ تستقِ ولو القليل من حكمة هذا البطل الذي عرف أنّ وصفة الخلود بسيطة جداً، وتكمن بالأعمال الصالحة والصيت الطيب؟ أم أنّك ماضٍ في غيّك لتصل إلى مصير كلّ من سبقك من الدكتاتوريات؟ هل أنت حقاً أعظم من بطل هذه الملحمة الذي بكى يوماً مصير البشر الفاني.
avata
avata
سيناء دباغ (سورية)
سيناء دباغ (سورية)