علي نصار.. مقامرات حانة بيروتية

علي نصار.. مقامرات حانة بيروتية

02 ديسمبر 2017
("رؤيا ديستوبية"، شربل عون)
+ الخط -

"الإدمان هو قَدَر كل عاقل ووسيلته اللاواعية لمواجهة أفخاخ الحياة. إنه كالرَسَنِ الذي يُطَوَّق به عنق البهيمة، والمفارقة أن الإنسان يسعى إليه سعياً؛ تماماً كما يفعل مع الإيمان...". لعل هذا المقطع الصغير يختصر فحوى المحور الرئيسي الذي تدور حوله أحداث "سيرة مسلم في حانة آرتين"، رواية علي نصار (1967) الجديدة التي تجري أحداثها في بيروت، في الأمكنة ذاتها، إنما في عدة أزمنة تسير بالتوازي لتغطي ثلاثة عقود، منذ بداية سبعينيات القرن العشرين حتى نهاية تسعينياته.

تضيء الرواية على السبل التي تفضي إلى التطرف الديني أو الأيديولوجي، وتُبيّن كيف أن هذه السبل ذاتها، تُفضي إلى الإدمانات الحادة. فمنها ينطلق نصار لعرض الإشكالية الحضارية التي تواجه المجتمعات الإسلامية المعاصرة، مرتكزاً على الحالة اللبنانية، كنموذج فاقع، إذ يكثفها داخل حانة عتيقة تعبق بذكريات العصر الذهبي للأحلام العربية، حيث تعيش شخصيات الرواية في صراع بين موروثاتها العقائدية والتقاليدية والثقافية... وبين الأفكار الأوروبية بتفرعاتها المتناقضة. أي الأفكار التي تسيطر على الكوكب منذ أكثر من قرنين.

تجلّت هذه الإشكالية بشكل حاد وساطع في شخصية "مسلم"، العالق بين ترهيب الدين وقيد الطائفة، وبين ترغيب الحضارة المستوردة وإغراءات السلطة والمال. على تعقيدات هذه الشخصية بنى نصار عمارته الدرامية، مرتكزاً على التخبُّط الذي تعيشه عائلة صغيرة مع محيطها من الأصدقاء العلمانيين والشيوعيين، بعد انتهاء الحرب الباردة، أي بعد أن وجدوا أنفسهم في العراء يبحثون عن انتماءات تستطيع مواكبة العصر، في ظل "بورصة" صعود وهبوط الحالات الإسلامية والأيديولوجية، لتتصاعد معها الحبكة الدرامية، من خلال مرور الوالد وابنه بـ"مخاضات انتمائية" متطابقة في الجوهر ومتعارضة في الشكل، إذ يعبران التجارب والأفكار والأماكن ذاتها، ويصادقان وينادمان الأشخاص ذاتهم، في زمنين مختلفين، ويغرمان بزينب، المرأة ذاتها، الحبيبة - المحور التي يغرم بها كل رواد الحانة... دون الحصول عليها!

لا شك في أن الكاتب استخدم زينب كحالةٍ مادِّيةٍ حَيَّة، لتحاكي افتتان شخصيات "حانة آرتين" بالحضارة الأوروبية؛ بالحضارة والأفكار التي لم يستطيعوا الإمساك بها، أو تطبيقها على أنفسهم وعلى محيطهم الاجتماعي، ولم يستطيعوا في الوقت عينه، التحرر من جاذبيتها.

من جهة أخرى، نستطيع القول إن الرواية سياسية بامتياز، ولو أنها لم تدخل في الخطاب السياسي المباشر، فالراوي لم يناصر أو يعادي أياً من الاتجاهات التي تتصارع، اليوم، انطلاقاً من لبنان إلى "الشرق الأوسط" إلى العالم. عرض نصار على لسان شخصياته، بحدّة، المواقف المتناقضة لمؤيّدي ومعارضي محوري "الممانعة" و"الاعتدال"... وعلى نفس الوتيرة تعاطى مع التداعيات الأخلاقية! من دون تقديس أو شيطنة لأي شخصية من شخصيات الرواية. فالكل جانٍ والكل الضحية... ولكن هذا لم يمنعه، لا بل كان وسيلته، لاتخاذ مواقف وقراءات "مبتكرة" للكثير من المواضيع الاجتماعية والسياسية الشائكة في بلادنا.

لم يتقيّد نصار بكادرات الصورة النمطية للمجتمع السّوي: "الطلب من الناس أجمعين أن يكونوا نسخة عنك هو الشذوذ بعينه... وهذا ما لن تقبله الطبيعة"، يقول على لسان إحدى شخصياته التي دافعت عن مثليّتها بجرأة تصل حد المغامرة في نص عربي.

كان من الأفضل لو أتيحت مساحة أوسع لبحث انتكاسات "عيسى سعيد"، أحد شخصيات الرواية الملتبسة والذي "لا يملك سوى الوقت، فيستكثرون عليه صرفه"، أو للتوسع في "معارك" الغرام بين زينب والهرش المدمن على المقامرة: "كل دورة روليت ستنتهي بحدثٍ جديد، بشعور جديد، بِوَقْعٍ نَضِرٍ. نضرٍ كمعاشرة امرأة جديدة؛ كاكتشاف جسدٍ آخر! هل يستطيع أحدكم أن يعيش مغامرة عاطفية أو جنسية كل خمس دقائق؟! لا. في الكازينو هذا يحصل. في الكازينو تعيش الأورغازم؛ تصل إلى النشوة كل دقيقة... خسارة أو ربحاً لا فرق! المهم أن الحياة تتدفق في شرايين روحك كالشلالات". هذا ما يقوله الهرش، أكثر شخصيات الرواية جاذبية، وهو ما قد ينطبق على "سيرة مسلم في حانة آرتين"، حيث تتدفق في روح قارئها.

المساهمون