علم الاجتماع مشتبكاً مع الواقع

علم الاجتماع مشتبكاً مع الواقع

23 ابريل 2014

English student of sociology

+ الخط -
في حوار قديم مع صديق، تساءلنا فيه عن دور أقسام علم الاجتماع في الجامعات العربية، وعن اقتحامها الواقع العربي، متسلحةً بالعدة العلمية والموضوعية. أذكر أننا توصلنا إلى اتفاق على أنه، بقدر ما يزخر المجتمع العربي بقضايا تستثير الدراسة والبحث، بقدر ما أن المكتبة العربية شحيحة، كماً ونوعاً، في الدراسات المتعلقة براهن المجتمع العربي.
يعود جزءٌ من هذه الحالة، في تصوري، إلى الطبيعة التي ينحى إليها علم الاجتماع، ودوره بين سائر العلوم. وبالذات في دولٍ غير ديمقراطية، حيث، في مثل هذه الدول، يصبح خطراً على الواقع وحراسه، وتحديداً إذا كان المتخصصون فيه يجيدون نشره، وكتابته لغير المتخصصين. المجتمع بعمومه (ولا معنى، هنا، لعزل السلطة السياسية عن المجتمع، حتى في أقسى حالات اغترابها عنه) هو موضوع علم الاجتماع. ولأن المجتمع، بديناميكيته وصيرورته وتناقضاته، يحمل تركيباً معقداً، فإن علم الاجتماع هو الأداة العلمية التي تعمل، كاشفةً ظروف هذا المجتمع والقوى الفاعلة فيه وطبقاته وصراع هذه الطبقات.
يطرح علم الاجتماع، أيضاً، الأسئلة عن النخب النافذة، كالسياسيين ورجال الأعمال وشيوخ القبائل وقادة الأجهزة الأمنية وزعماء الطوائف. وعن النخب التي تصنع النفوذ، كالمثقفين والإعلاميين ورجال الدين والمشاهير. يقول علم الاجتماع كلاماً عن التنمية المفقودة، وغير المتوازنة، والتهميش، وضمور المجتمع، وتغول الدولة.... لا تخرج المسائل الاقتصادية، أيضاً، عن مجال اهتمام علم الاجتماع، كالملكية العامة والملكية الخاصة وتوزع الثروة ووسائل الإنتاج، ولا يغيب عن مبضع علم الاجتماع النقدي أن يفحص "الميديا" القديمة والجديدة وأثرها وفاعليتها، بل إن ظهور إشكالات فلسفية، كالتشيؤ والاغتراب، عند علماء الاجتماع، يجعل هذا العلم من أهم العلوم الفلسفية التي تناولت الحياة الحديثة. ولا ينقضي الحديث عن المناطق التي يسافر إليها علم الاجتماع، ففي إمكاننا أن نعد كل نشاط إنساني ظاهرة اجتماعية.
بهذا، فإن علم الاجتماع عندما يسافر إلى كل هذه المناطق، فإنه، في الحقيقة، يشتبك مع النافذين وأصحاب المصالح. إنه حين يكشف الواقع، ويعريه، يصنع من المستفيدين من هذا الوضع أعداءً له، على الأقل، هو يقول ما لا يعجبهم.

إن حالات التعسف والاستبداد والاستغلال والهيمنة والطبقية والشمولية وغيرها ممارسات تتم عادة في العتمة، أو في الخوف. وعلم الاجتماع هو الذي يتكفل بقهر هذه العتمة، ويسلط الضوء على راهن المجتمع ومآلاته. العلم ما هو إلا كشف المخفي، لكن كشف المخفي في الفيزياء، أو الرياضيات، لا يهدد أحداً عادة، بينما المخفي الذي يكشفه علم الاجتماع، غالباً، ما يهدد كثيرين، قد يكون سبباً في تقويض مصالحهم. ولأنه علم ومعرفة، ولأنه منهج وأدوات بحثية، فإنه، بذلك، يتمايز عن الصحافة، مهما كانت نقدية واستقصائية، بل إن الصحافة الذكية لا تغفل عن تلك المساهمة التي يمكن أن يُقدمها هذا العلم في مواضيعها وتحقيقاتها. إنه يملأها بشحنة كافيةٍ من الرصانة العلمية والحقيقة الموضوعية. هذه الوظيفة لعلم الاجتماع تضيف ميزة للحقيقة التي ينتجها علم الاجتماع، وهي أن هذه الحقيقة ذات نفع عام للمجتمع.
لأن الصراعات المجتمعية هي من المناطق الرئيسة لعلم الاجتماع، فإن على عالم الاجتماع أن يبذل جهداً مضاعفاً، ليحافظ على أقصى درجات الموضوعية والعلمية في أعماله، فمن السهل جداً أن يُطعن في أقوال عالم الاجتماع، من خلال المحتوى السياسي لمقولاته، أو من خلال أي نفس طبقي، يبدو من خلالها. موقع عالم الاجتماع، الاجتماعي والسياسي، حمل ثقيل على ظهره، لكنه ليس الحمل الوحيد، فما يُسمى "سوسيولوجيا علم الاجتماع"، أيضاً، حمل آخر على باحث الاجتماع أن يدرك فيه أهمية مسألة العلاقة بين الذات والموضوع في أعماله وموقعه "كصاحب رأس مال معرفي" فاعل اجتماعياً في هذا المجتمع وحضوره فيه، أي يجعل نفسه ذاتاً دارسة وموضوعاً مدروساً في الوقت عينه.
هذه ليست دعوة لتنصيب علم الاجتماع سيداً على العلوم كلها، أو مستغنياً عنها، أو حاكماً عليها، فالذي يبحث عن المعرفة بأداة واحدةٍ لا يصل، بل إنه أصبح من المتعذر الحديث عن علم قد استغنى عن أدوات غيره (الإحصاء الكمي مثلاً من أهم أدوات علم الاجتماع)، لكنها إشارة للدور المعرفي الذي يمكن أن تقوم به الدراسات الاجتماعية في الوطن العربي. وقد مرت على الوطن العربي ظواهر ضخمة ذات جذر اجتماعي، أو لها بعد اجتماعي، كالصحوة الإسلامية والطائفية والربيع العربي، لكن الاشتغال العربي بالدراسات الاجتماعية أقل من الطموح والمأمول، كماً ونوعاً.
 

دلالات

7DCBCDF9-9B50-4782-AA8C-FEDA3F7106B7
نايف السلمي

مهندس صناعي وكاتب سعودي مهتم بالفكر و الثقافة في الوطن العربي، ومؤلف مشارك في كتاب "في معنى العروبة .. مفاهيم و تحديات".