Skip to main content
عصا الصَّيف السِّحريّة
نجوى بركات
(حسن جوني)
لستُ أدري ما هو ذاك الشيء الغامض الغريب الذي يحدُث في لبنان كلّ صيف، حين يبدو وكأنّ بلدا بأسره يختفي، ليستيقظ آخر سواه يختلف كلّية عنه، وإن بقي في حدوده الجغرافية ذاتها، يحوي الشعوب والمشكلات والقضايا نفسها، فبعد اكتئاب الشتاء، ومعضلاته الكثيرة، من مشكلة نفايات وأزمة اقتصادية خانقة وقضايا هدر وفساد لا تُحصى، وأنواع غير محدودة من أصناف الجدل البيزنطي والسفاهة والركاكة السياسية التي لا تلقى لها مثيلا، وبعد وضع السكاكين على رقاب العباد في قضية إقرار السلسلة والرواتب، ثم في مشروع الموازنة المقترح لعام 2019 الذي أنزل عددا كبيرا من المعنيّين باقتطاع جزءٍ من رواتبهم وتعويضاتهم إلى الشارع، والخوف الذي يولّده الحديث الدائم عن احتمال نشوء حربٍ في المنطقة، وضربة إسرائيلية على لبنان، بعد هذا كلّه، واستمراره راكدًا جمرًا تحت الرماد يهدّد بالاشتعال في أية لحظة، ينام اللبنانيّون ثم يصحون فجأة، وهم في بلد آخر يرتدي أجمل حلله، ويستعدّ لاستقبال صيفه المتّشح بأبهج الألوان.
المهرجانات التي تغطّي معظمَ المناطق اللبنانية تدقّ طبولها، وتُطلق نفيرها، معلنةً عن برامجها الفنّية والموسيقية: الأرز، بيت الدين، بعلبك، جبيل، بيروت، جونية، إهدن، غلبون، زوق مكايل،.. إلخ، متبارزة في ما بينها على انتزاع لقب الدولية والعالمية، متناسيةً الأحوال المعيشية الصعبة، والبنى التحتية المفقودة والمعطوبة، ومصيبة أزمة السير الخانقة، والدّين العام الهائل، ونزاع البيئة مع احتضار الأنهار وتلوّث البحر.
أجل، نتناسى هذا كلّه، فقد قيل لنا إنّ الموسم السياحيّ واعدٌ، بعد أن رفعت المملكة العربية السعودية الحظر عن رعاياها، وسمحت بسفرهم إلى لبنان، وبعد أن أعلنت الفنادقُ الكبرى حجوزاتٍ تصل لدى بعضها إلى ثمانين في المائة، وبعد أن بدأنا نرى مطالع الوفود الخليجية والأجنبية المقبلة إلى لبنان، وبعد أن أكّد لنا وزيرُ السياحة أنه "فعلا عندما يصل السائح الى المطار يعرف أن هناك روائح كريهة، لكن لا أبالغ أنا لا أشمّها"، مضيفاً أن "93% من الشركات التي أتت إلى لبنان في المؤتمر الذي عقدناه أعلنت أنها ستبرمج لبنان ضمن برامجها السياحية". أجل، على السائح فقط أن يتناسى الرائحة الكريهة التي تلاقيه بعد خروجه من المطار، لتكون له من بعدها المكافآت، فتفتح أمامه مغارة علي بابا المملوءة سحرا طبيعيا وطعاما لذيذا ومفاجآت..
ومع ذلك، ما زالت هنالك في لبنان زوايا تخلع القلب لصفائها وجمالها وألقها، وأناس يدغدغون لطيبتهم روحَك، ومناظر تكاد تُقسم أنك، مهما ابتعدت ونأيتَ، فستبقى مربوطا إلى ذكراها ما حييت. ثمّة طاولة، إن جلستَ إليها، لاعبت الأمواجُ قدميك، ورفعتك زرقةُ المياه عاليا حتى لتتحدّ بالسماء. وثمّة وجباتٌ عجنتها أيادي الأمّهات والجدّات متغضّنات الجبين من كثرة العطاء، تُصادفك عند منعطف طريقٍ صاعدة، تتوقف عندها لاستراحة، لشربة ماء، فإذا بك جالسٌ إلى وليمةٍ تشبع عينيك ويديك وحواسّك كلها إلى حين. ثمّة أديرةٌ ومغاورُ ووديان، سلكتها أقدام النسّاك، ومساجد وزوايا أقيمت في ذكرى الصالحين من الأولياء. ثمّة منازل قديمة وشرفات تضجّ بروائح الياسمين والغاردينيا والقرنفل والخبيزة، ومصاطب تظلّلها العرائش، وتتوسّطها بركٌ بنوافير تقذف الماء، وتُلقى فيها حبّات الفواكه ورؤوس البطيخ، لتتشبّع ببرودة الينابيع. وثمّة سواقٍ وساحات قرى تكثر فيها موارد الماء، لتسقي العطاشى من عابري السبيل والحفاة.
وإذ ينزل المساء، وتبدأ أولى النجوم بالظهور، تتكوّر قبةُ السماء لتشتعل بآلاف النقاط اللامعة، والشهب الساقطة، فيما يتدحرج الهواءُ المبترد في أعالي الجبال نزولا، ليدثّر الأجساد المستلقية في العراء، في المراجيح، وعلى العشب، وفوق السطوح.
أجل، هذا هو لبنان الصيفيّ لزوّاره، غبطة وفرحة، حين يُراد له أن يكون، وفي بقية الفصول، غصّة لأهله وقاطنيه. وبين هذا الفصل وذاك، ذاكرة تحيا وأخرى تموت، فيما تطفو الآمال متهاديةً بين الاثنتين.