عشق صحافي وأحلام ناصر

عشق صحافي وأحلام ناصر

13 سبتمبر 2020
+ الخط -

في ساعة متأخرة من كل ليلة، ألجأ إلى غرفتي الصغيرة، بعد أن أكون قد أعددت فنجاناً من القهوة العربية مصحوباً بحبّات الهال المطحون التي أقوم بتحضيرها بنفسي على نار هادئة، وأعود إلى غرفتي حاملاً فنجان القهوة وقلم الحبر السائل، ودفتري وأوراقي، إلى جانب موبايلي الذي أصغي من خلاله إلى مطربة الشعب، طيّب الله ثراها أم كلثوم، والاستماع إلى أغانيها الخالدة، وإن كان مجمل ما صدحت به قبل مفارقتها الحياة ظلّ يميّزها عن بقية الفنانين العمالقة البقية الذين ما زال قسم كبير منهم، وإلى اليوم، يشغل مكاناً يوازي إن لم نقل يفوق كوكب الشرق!.

في مثل هذه الساعة من الليل أمسك بقلمي وأحاول اختيار الموضوع المناسب الذي يمكن التطرّق إليه، وبفضل من الله، فإن استمراري في الكتابة ورغبتي الشديدة في ذلك يدفعاني إلى البقاء ساعات وراء طاولتي وكرسيّ الخشبي متأملاً في الوقوف على كتابة مادة صحافية ترضي القرّاء وتروق لهم، وعلى أن تكون لها علاقة بالناس تمس حياتهم، وتقف على معاناتهم، وترصد مشكلاتهم، ومنها ما هو اجتماعي، وهذا أكثر ما أحاول الوقوف عنده والاهتمام به، لأنه يهم شريحة كبيرة من الناس.

شوقي للكتابة ورغبتي في القراءة يدفعاني إلى قضاء المزيد من الوقت في غرفتي إلى ما بعد ساعة متأخرة من بعد منتصف الليل، وفي أحايين كثيرة أستيقظ قبل شروق الشمس بساعتين وأكثر وأركن إلى كتابة ما تشتهي نفسي، وهذا منه كثير.

فالكتابة تظل بالنسبة لي فيها الكثير من المتعة، لا تعدلها أو تفوقها متعة أخرى، ومن غير المستحسن ألا تُلزم نفسك بها أو تجبرها عليها. لا. أتركها على هواها، وهذا ما يزيد الرغبة إليها.

إنها مجرد تأملات شخصية أردت البوح عنها، وما هي إلا مجرد تنويه للقارئ لمعرفة ماذا يخفي الكاتب والأديب والصحافي والفنان في شخصه، وهذا جانب، وهناك جوانب أخرى تظل خفية على صاحبها وعلى الناس

الرغبة المدفوعة بالأمل تحقق لك المستحيل، وخلق الإبداع، وطرح الموضوع الذي ترغب فيه، وتقدمه للقارئ على طبق من ذهب..

بالنسبة لي، فإن فرحتي لا تكتمل إلّا بعد أن أكون قد انتهيت من كتابة موضوع ما، وهذا ما يزيدني حُبّاً وشوقاً لها، وما يزيد من تجديد نشاطي وهمّتي ورغبتي للمرة الثانية والعاشرة.

 فالرغبة تحتّم عليّ تناول موضوع آخر، وهكذا دواليك، إلى أن أنتهي من كتابة ما تشتهي نفسي، وبعد ذلك أحمل أوراقي، وما لديّ والتوجّه إلى جهاز الكومبيوتر، ونقل ما كنت كتبته لتقديمه للقارئ، وبعد تصحيحه وتدقيقه أقوم بنشره، وهذا ما أقوم به بشوق ورغبة شديدة، وبدون كلل أو ملل، بل إن ذلك يدفعني إلى المتابعة المستفيضة، وقراءة ما بين يدي من كتب وروايات ومقالات لكتّاب معروفين، فضلاً عن الاطلاع على عدد غير محدود من الصحف العربية الصادرة بصورة يومية، وما تتناوله الدوريات الأسبوعية والشهرية بين دفتيها من مواد وتحقيقات صحافية تستحق الوقوف عندها، ناهيك بما تخبرنا به المواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي، على كثرتها، ومتابعة ما يدوّنه ويتناوله الأصدقاء، وغيرها الكثير من الصور التي تزيدني تألقاً ورغبة في الاطلاع عليها وقراءتها.

إنها مجرد تأملات شخصية أردت البوح عنها، وما هي إلا مجرد تنويه للقارئ لمعرفة ماذا يخفي الكاتب والأديب والصحافي والفنان في شخصه، وهذا جانب، وهناك جوانب أخرى تظل خفية على صاحبها وعلى الناس، ولا يمكن بحال الاعلان عنها مهما كانت الظروف المحيطة بها.

إنّها مجرد تأملات حاولنا أن نلقي بها بين يدي القارئ لمعرفة ما يمكن من معرفته من أسرار، وإن كانت عادية، في حياة العاشقين للأدب والكتابة والصحافة والفن، وغيرهم.

***

وقف ناصر على باب غرفته الحجرية التي انتهى قبل أيام من بنائها، وشراء ما يلزمها من أثاث جديد لإيواء أسرته بعد أن أمضى سنوات ليست بالقليلة من عمره بعيداً عنها، حتى استطاع تأمين المبلغ الذي مكّنه من شراء قطعة أرض، وما بقي معه من نقود سارع في بناء غرفته الوحيدة، إضافة إلى مطبخ وحمام متواضع أسوة بغيره.

الفترة التي قضاها ناصر خارج وطنه حتى تمكن من جمع المبلغ الذي مكنه من البدء بمشروع العمر بالنسبة له، بعد غياب سنوات أمضاها بعيداً عن أهله وأسرته ومدينته في بلاد الاغتراب، والعمل هناك في أماكن لم يكن يعمل بها لولا أنّه كان مضطراً لذلك.. وشاء القدر أن ساقته قدماه للعمل لدى إنسان متفهّم ويخاف الله، وكان يساعده على حل كل مشاكله التي تقف أمامه.

قضى ناصر سنوات مديدة من عمره في الغربة، في دولة أجنبية لا يعرف من لغتها إلّا بعض المفردات، رغم الفترة الطويلة التي أمضاها فيها، إلّا أن صاحب العمل كان يساعده، ويغدق عليه الكثير من المال احتراماً لشخصه ولأمانته، وهذا ما دفعه للالتزام معه في العمل فترة لا بأس بها، برغم كل المصاعب، وبدوره لم يقصّر ناصر في رعايته والاهتمام به، فما كان منه، وبعد سنوات من خدمته والبقاء معه، فضّل السفر إلى بلد آخر لأجل تحسين دخله، فما كان منه إلا أن انتقل إلى دولة أخرى، دخله الشهري، وللأسف، لم يكن يظن أنه سيكون بهذه الصورة، فهو أدنى بكثير من المبلغ الذي كان يتقاضاه في المكان الذي ترك العمل فيه وبعد أكثر من عشرين عاماً بعيداً عن أهله وأسرته ورفاق دربه، قرر العودة إلى مدينته التي اشتاق إلى دروبها وأزقتها، وكل ما حاول فعله بعد هذه الغيبة الطويلة، شراء قطعة أرض وبناء غرفة وحيدة تلتحف أسرته، فضلاً عن مطبخ وحمام.. ونجح في ذلك، في حين أن أصدقاء طفولته الذين فضلوا البقاء في بلدهم لم يحققوا ما حققه ناصر نتيجة إصراره ورغبته وجلده وصبره، وتحمّل شقاوة الأيام وقهرها حتى تمكن من تحقيق حلمه الصغير.

ناصر وحده الذي فاز بقصب السبق، وحقق رغبته ورغبة أولاده وزوجته بعد أن هجرهم سنوات وتركهم عرضة للحاجة والذلّة، وعاد إليهم مرفوع الرأس، فرحاً بما كسبه من غربته، على الرغم من الصعاب الكثيرة التي واجهته، والأيام التي قضاها بعيداً عنهم، في زهوة شبابه، وتحمّله أوجه المعاناة والظفر بالتالي بمستقبل أطفاله..

دلالات

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.