عسكرة الأرقام

عسكرة الأرقام

08 مايو 2014
+ الخط -

فضحت الثورات العربية الأنظمة، بكل ما للكلمة من معنى. بعد انطلاق الثورات، غصت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بتقارير تبيّن التركيبة العنكبوتية للأنظمة. خيطان مترابطة تدور حول سلطة الحاكم وحاشيته. وعلى هذه الخيطان توجد كل المصالح التي تضمن ديمومة الأنظمة أبدياً. 

بين التقارير المذهلة التي تفسر آلية نهب مقدرات الشعوب، برزت قضية تعتبر أساسية في تحديد الشعوب العربية لواقعها المعيش. إنه الرقم الإحصائي، الصادر عن مراكز الإحصاء الرسمية. رقم تمت عسكرته في السابق ليصبح مجنّداً كأي عنصر من عناصر الأمن والاستخبارات الرسمية، يتم رفعه وخفضه وفق مشيئة الحاكم، ويُستخدم غطاءً يخفي معالم مأساة البشر الرازحين تحت سيف الأنظمة. 
في سورية مثلاً، يمكن أن يصاب قارئ أرقام جهاز الإحصاء المركزي الرسمي بذهول منقطع النظير.
يكفي فقط تتبع مؤشرات ثلاثة في العام 2011 (قبل انطلاقة الثورة) عن عدد السكان، حجم القوى العاملة وعدد العاطلين من العمل، لينتهي القارئ بخلاصة عجيبة مفادها أن عدد السكان حوالى 22 مليون نسمة، وعدد السكان بين 15 و65 سنة يصل إلى 12.5 مليون نسمة، يعمل منهم حوالى 5.8 ملايين نسمة، لتكون نتيجة الإحصاء المركزي أن عدد العاطلين من العمل في سورية كلها لا يتعدى الـ 866 ألف نسمة من أصل 22 مليون نسمة!. 
مثال آخر يتعلق بالعام 2010. تقول دراسة أعدتها هيئة تخطيط الدولة السورية، بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أن نسبة الفقر في سورية 33.6 في المئة من عدد السكان عند استخدام خط الفقر الأعلى. إلا أن المكتب المركزي للإحصاء في سورية أعلن أن 7.7 في المئة من عدد السكان فقراء.
وفي العام 2011، انتقد اتحاد عمال دمشق التابع للنظام مركز الإحصاء قائلاً في بيان له: "أرقام المكتب المركزي للإحصاء على مقاس الدول الاسكندنافية، إن كان من ناحية تحديد نسبة الفقر أو حتى تحديد نسبة النمو بـ 24.5%". وقد اعتبر الاتحاد أن هذا النمو وهمي. 
وإذا كانت عسكرة الأرقام في مصر قد دفعت المسؤولين في الجهاز المركزي للتعبئة والاحصاء الى الخروج بغير مؤتمر صحافي للتأكيد على صحة أرقام الجهاز، فإن الرقم في تونس كان يتعرض لعمليات تشويه متواصلة تطاول تحديداً المؤشرات الاجتماعية للسكان. 
إذ شهدت وسائل الإعلام، كما الاتحادات النقابية، ثورة ضمن الثورة التونسية ضد الأرقام الرسمية التي يصدرها المعهد الوطني للإحصاء في تونس. فبعدما أعلن المعهد أن نسبة الفقر في تونس في العام 2011 لا تتعدى الـ 11.5 في المئة، خرجت وزارة الشؤون الاجتماعية لتؤكد أن النسبة الحقيقية للفقر هي 24.8 في المئة.
وقد أكد المدير المركزي للإحصائيات الاجتماعية والديموغرافية في المعهد الوطني للإحصاء في تونس في مؤتمر صحافي في العام 2011 أن نظام زين العابدين بن علي لم يمارس ضغوطاً سياسية على المعهد بقصد التعتيم على الإحصاءات الرسمية، باستثناء طلب وحيد من حكومة بن علي بعدم نشر نسب الفئات الهشة طبقاً للمسح الوطني للإنفاق والاستهلاك الأسري للعام 2005، وذلك بهدف إخفاء الفوارق الاجتماعية الكبيرة في تونس.
وأعلن المدير العام للمعهد الوطني للاحصاء جلال الدين بن رجب، في مقابلة صحافية في العام 2013، أن اصحاب القرار في تونس كانوا يأخذون ما يناسبهم من الأرقام الإحصائية ويتركون ما لا يناسبهم.
وقال حرفياً: "وقد تم في عديد من المناسبات التلاعب بالأرقام ونسبها، خاصة في مجالي التنمية المناطقية ونسب الفقر والبطالة والتعليم حيث كانت تقدم أرقام مغلوطة الى الشعب". إلا أن هذا الواقع لم يتوقف بعد الثورة، بحيث بقيت الانتقادات تلاحق المعهد الاحصائي في تونس وتشكك في أرقامه ومؤشراته. 
والعسكرة التي تلاحق الرقم الإحصائي في العالم العربي لا تقتصر على أنظمة تتصف بطابعها العسكري، فالواقع ذاته يتكرر في الأردن كما في لبنان، بحيث يجري إخفاء الأرقام والتلاعب بالمعادلات الرياضية المستخدمة وصولاً الى الخروج بأرقام لا تعكس حقيقة الواقع الاجتماعي والاقتصادي للسكان. 
وبين الرقم الوهمي المعلن والرقم المخفي الذي يغطي الويلات الاجتماعية والاقتصادية، يستطيع المواطن العربي الاستدلال بواقعه البائس لمعرفة الحقائق، بفعل وصمة "اللا- ثقة" التي ستلاحق الأجهزة الإحصائية الرسمية إلى أن تصطلح. 

المساهمون