عزمي بشارة يفكّك صفقة ترامب ـ نتنياهو.. القادم أسوأ

عزمي بشارة يفكّك صفقة ترامب ـ نتنياهو .. القادم أسوأ

08 مايو 2020
+ الخط -
جاء كتاب عزمي بشارة، الصادر أخيرا، "صفقة ترامب ـ نتنياهو.. الطريق الى النص ومنه الإجابة عن سؤال ما العمل؟" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020) في مستوى التوقعات المسبقة من مفكر عربي كبير، ذي درايةٍ عميقةٍ وخبرات متراكمة، مثقفٍ منخرطٍ في النقاش العام بشأن المسائل المركزية الملحة، المطروحة على النخب السياسية والفكرية في هذه المنطقة، الأمر الذي من شأنه أن يوسّع النقاش الجاد، ويثريه بالضرورة الموضوعية، حول واحدةٍ من أهم هذه المسائل المثيرة للهواجس المقلقة، والباعثة على التنبؤات السيئة، وأن يصوّب، في الوقت نفسه، عملية التعاطي مع مدخلات "الصفقة" وسياقاتها المتوقعة، وأن يسهم في الإجابة عن أسئلتها الموجعة، ناهيك عن ممكنات التصدّي لمخرجاتها المحتملة، بصورة أكثر نجاعة مما تلهج به ألسنة ذوي الخطاب النمطي السائد.
بداية، أحسن بشارة في تسمية هذه الخطة باسم "صفقة ترامب ـ نتنياهو"، حتى وإن كانت صفقةً كتب نصها رئيس حكومة المتطرّفين والمستوطنين، ووقع عليها الرجل المتهور من دون أن يقرأها، بدليل أن صاحب هذا الكتاب قد شخّص بنفسه (في الصفحة 15) ماهية الصفقة بقوله إنها "نص إسرائيلي يميني بخطاب صهيوني/ ديني"، وأنها، من مبتدئها إلى خبرها، مجرّد عملية مصادقة أميركية على الوقائع التي أوجدها الاحتلال على الأرض، واعتماد مطلق لمنطق القوة المجرّدة، فضلاً عن تبني الرواية اليمينية الإسرائيلية بالكامل، وفوق ذلك مباركة الرؤية الصهيونية للحل النهائي.
وقد لا يضيف المرء كثيراً إلى هذه المقاربة الحاذقة لصفقةٍ بدأ تنفيذ بنودها قبل أن يتم الإعلان 
عنها، ولا أن يجادل في الدوافع المصلحية المتبادلة بين طرفيها السادرين في الخروج على القانون الدولي والشرعية الدولية، إلا بالقول إن هذه الخطة قد تم وضع تفاصيل تفاصيلها الدقيقة، عن سابق عمد وترصّد، كي يستحيل قبولها من المخاطبين بها، إن لم نقل رفضها بصورة تلقائية، وبالتالي الحفاظ على الواقع الذي أوجدته إسرائيل، وهو واقع يبدو أنه أفضل البدائل المتاحة لتوسيع الاستيطان، وتأبيد الاحتلال، ومنع إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة.
ذلك أن كل ما انطوت عليه هذه الخطة التي لم ينجح الرئيس الأميركي، ترامب، في إملائها على الفلسطينيين والعرب، أقله إلى الآن، من شروط تعجيزية واشتراطات مذلة، لقبولها من أولياء الدم، أو حتى لمجرّد التعاطي معها نظرياً، بما في ذلك نزع الأسلحة، والاعتراف سلفاً بيهودية الدولة، والسيطرة على الحدود والمياه والأجواء، والقبول بمفهوم إسرائيل للأمن، ناهيك عن الإذعان لمنطق السيادة المنتهكة، نقول تؤكّد هذه الشروط والإملاءات، اعتقاداً يرقى إلى الحد اليقين، أن الغاية الجوهرية الكامنة بين سطور هذه الخدعة هي استدراج رفض علني لها، والزعم أن الفلسطينيين الذين درجوا على الرفض قد فوّتوا بعنادهم فرصة جديدة.
وأحسب أن هذا الإصدار الجديد، الممهور بتوقيع مفكر عربي من وزن عزمي بشارة، قد لحظ ذلك كله، وأضاف إليه قراءة متمعنة، ثاقبة وحصيفة، لجملة الوقائع المتعاقبة على مدى العقود الماضية، ولمجمل مسار التحوّلات الإقليمية والدولية غير المواتية، تلك المتغيرات التي أوصلت الجميع إلى هذا الوضع الشائن، وبدّلت، في الوقت ذاته، الأولويات والأفضليات على أجندة نظام عربي شائخ، راحت عواصمه تتبارى على استرضاء الإدارة الأميركية بكل ثمن، ومجاراة سياساتها الشرق أوسطية على طول الخط المستقيم، وذلك على نحو ما تجلى عليه حال العواصم المذعورة، غداة طرح هذه الصفقة التي قوبلت إما بالدعوة إلى عدم التسرع في رفضها، والنظر فيما قد تعد به، أو بالصمت المطبق، وهو أضعف الإيمان على أي حال.
لم يرتدِ عزمي بشارة ثوب المحاماة، أو يحسب نفسه مترافعاً أمام هيئة قضائية أو محكمة دولية، عندما أخذ يعرض بنية هذه الخطة، التي لا يمكن اعتبارها صفقةً، على الرغم من تسميتها بذلك، ومضى في سبر غور مصطلحاتها، وتقليب مفرداتها، وتمحيص غاياتها النهائية، المرتكزة على غرض تصفية القضية الفلسطينية مرة واحدة وإلى الأبد، فهي، بلغتها الاستعمارية الوصائية (التعبير للدكتور عزمي)، لا تُنشئ حقاً لمحتل، ولا تُضفي مشروعية على احتلاله، كما أنها ليست ملزمة لأحد، بمن في ذلك الرئيس الأميركي المقبل، وقبل ذلك وبعد هي ابن غير شرعي للحظة سياسية قد تكون انتقالية، قد تنقضي في انتخابات رئاسيةٍ أميركيةٍ وشيكة.
لقد لاحظ مؤلف الكتاب أن بعض بنود هذه الخطة التي جرى الحديث عنها منذ نحو ثلاث سنوات، أي غداة دخول ترامب البيت الأبيض، قد بدأ تنفيذها تدريجياً وعلى مراحل، مثل وقف تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، إغلاق ممثلية منظمة التحرير في واشنطن، الاعتراف بالقدس عاصمة للدولة العبرية، ونقل السفارة الأميركية إليها، وذلك لقياس ردود الفعل العربية إزاء كل بند بعينه، إلا أن ملاحظته الأهم (كما يبدو لي) أو قل استنتاجه، أن هذه الخطة المفصّلة على مقاس نتنياهو تمثل تحولاً دراماتيكياً في الموقف الأميركي التقليدي تجاه الاستيطان، وأنها مصمَمَة كي تزيل مخرجات اتفاق أوسلو من الوجود، أو أقله عن مائدة التفاوض.
وأحسب أن من بين أفضل فصول هذا الكتاب، الذي جاء في وقته المناسب، الفصل الذي قدّم فيه 
بشارة عرضاً تاريخياً موثّقاً بوقائع المسار الانحداري المتواصل، وأعاد إلى الذاكرة محطاته الرئيسة البائسة، التي بدّلت التوازنات القديمة، وغيّرت الواقع تماماً، وأفرطت في تكسير قواعد اللعبة الكلاسيكية، من معاهدة كامب ديفيد المصرية، إلى تفرد القطب الأميركي بزعامة العالم غداة انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، إلى النتائج الكارثية الناجمة عن غزو العراق، ناهيك عن التحوّل في مفردات الصراع، أسسه، خطابه وأدواته، إثر قيام السلطة الفلسطينية، الأمر الذي مهد الأرضية السياسية الملائمة لطرح هذه الخطة القائمة على منطق أن القوة تخلق الحق وتحميه بالحديد والنار.
أما لماذا كل هذا الانحياز الأميركي لإسرائيل بهذه الدرجة غير المسبوقة، ولماذا كل هذا الافتئات على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني بعماء بصيرةٍ تامة، فإن الجواب لدى عزمي بشارة بسيط ومركب في الوقت ذاته، حيث لا يمكن فهم هذه الخطة الخارجة على مبادئ القانون الدولي بفظاظة شديدة، إلا بفهم السيرورة السياسية والثقافية الأميركية التي قادت إدارة ترامب إلى هذا المنعرج الذي يشي بما هو أسوأ مما انطوت عليه الخطة السيئة، إذا ما قُدر لقوة دفعها أن تجتاز حائط الرفض الممسوك من جانب المؤسسة التمثيلية الفلسطينية الوحيدة، وأن تحظى، تحت ضغط الدولة العظمى، بقبول عربي وازن، أحسب أن عاصمة لا تستطيع حمْل أوزاره الثقيلة، وأن تُعرّض نفسها لتهم خيانة القدس والقضية الفلسطينية.
ولعل الإجابة عن سؤال: ما العمل؟ المطروح في خاتمة هذا الكتاب القيّم، إجابة تستحق مزيداً من النقاش بمسؤولية عميقة، وبدون آراء مسبقة، لما تضمنته الإجابة من رؤية استشرافية شفيفة، وربما صادمة لكثيرين، مثل أنه لا إمكانية للعودة إلى الكفاح المسلح، فقد تغير الواقع كلية، ولا حل للسلطة الفلسطينية، إذ إن بديلها هو الفوضى، وأن الدعوة إلى تفكيك إسرائيل غير ممكنة من دون إقناع الأغلبية اليهودية بذلك، وأن الحوار مع أوساط إسرائيلية ينبغي ألا يكون حول تحقيق السلام، أو حل الدولتين، وإنما لتحقيق العدالة في ظل نظام غير صهيوني. وأخيراً يجب أن يستند الكفاح الفلسطيني إلى خطاب ديمقراطي موجّه ضد نظام الفصل العنصري، تتبنّاه وتعمل عليه التجمعات الفلسطينية، كلٌّ حسب ظروفها الخاصة بها.
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي