عربة الإيطالي بودا وقاطرة البوعزيزي
كما فعل الشاب الإيطالي الفقير، ماريو بودا، أول مرة في نيويورك عام 1920، عندما ركن عربته التي كان يجرها حصانٌ، والمحملة بالمتفجرات في جادة وول ستريت، وغادرها لتنفجر، كي يجعل الرأسمالية الأميركية تدفع ثمنَ الاعتقال السياسي لزميليه العاملين. كان يمكن للشاب التونسي، محمد البوعزيزي، أن يفعل، فيحمِّل عربة الخضار التي كان يعمل عليها بمتفجرات وصواعق ومسامير وغيرها، وأن يفجرها أمام مقر ولاية سيدي بوزيد في تونس، انتقاماً ممن أهانوه ومنعوه من ممارسة عمله بائعاً متجولاً يبيع الخضار. وتنقضي المسألة على هذا النحو، انتقامُ المقهورِ، ويضاف اسمه إلى سجل مفجّري العربات حول العالم، ثم ينسلُّ من ذاكرة الناس بعدَ حين. لكنه آثر أن يحفر اسمه في ذاكرة الشعوب التّواقة إلى الانعتاق من فقرها وجهلها ومرضها وحرمانها، ومن تسلط حكامها واستبدادهم، فأحرق نفسه في السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول عام 2010، وأحرق معه كل الخوف الذي تجمع في أنفسِ فقراءِ العرب المقموعين عبر عشرات السنين. ومن نيران جسده، اشتعل فتيل الثورات التي امتدت، فعبرت حدود الأوطان.
وبين الرجلين فرقٌ: فالأولُ استهلَّ عصراً من تفخيخ العربات وتفجيرها، تبعته سلسلة من تفجير السيارات حول العالم، حصد مع المذنبين آخرين أبرياء، ومنها ما نشهد فصوله الدموية في العراق، وغيره من البلدان هذه الأيام، وليتوقف الزمن عند هذا الحد. وكانت الإنجازات تقتصر على القليل، إذا ما استثنينا التفجيرات التي طالت محتلي المستعمرات السابقة، وتلك التي طالت قوات المارينز الأميركيين والقوات المتعددة الجنسية وجنود الاحتلال الإسرائيلي في لبنان، في النصف الأول من عقد ثمانينيات القرن الماضي، والتي ساهمت في إجبارهم على الخروج المذل من هذه البلاد. إلا أن الثاني، ولو لم يكن أول حارقي أجسادهم، إلا أنه استهل عصراً من إحراق الجسدِ الذي فجر به ربيعاً عربياً، فأصبح جسده قاطرةً لثوراتٍ، انطلقت من تونس، وتوزعت في أرجاء العالم العربي، بعضها أينع وبعضها مستعرٌ ما يزال، وبعضها تحت رمادٍ لا تمنع بعض العطاءات، أو الإصلاحات في هذا البلد، أو فتكُ عسكر في ذاك من استعارها في لحظةٍ ما، طالما الظلم والفقر باقيان. وهي ثوراتٌ اعتبرت استقلالاً ثانياً، لأنها ماثلت في حجمها وشموليتها ثورات الاستقلال والتحرر الوطني في القرن الماضي، أولاً. ولكونها تخلصت، وتعمل على التخلص، من حكامٍ كانوا أذناباً لمستعمرٍ قديمٍ، فأوقفوا تقدم بلدانهم لصالح بضاعته، واستخرجوا ثروات بلدانهم لتحريك معامله ثانياً.
وكان محمد البوعزيزي جامعياً عاطلاً عن العمل (أو متعطلاً). وكان الحفاظ على عربة الخضار التي يعمل عليها سقف آماله وطموحاته في بلادٍ يترفل حكامها وأقاربهم وأقارب زوجاتهم والمحظيون والقادة الأمنيون بالحرير. ويتنعمون بالمليارات المنهوبة التي جمعوها عبر بيع القطاع العام وخصخصته، وقبض العمولات من صفقات السلاح، وفتح البلاد أمام الشركات المتعددة الجنسيات التي تضْمن حسن تدفق الأموال إلى خارج البلاد، إلى البنوك ذات الحسابات الآمنة. ولم يكن البوعزيزي يأمل من هؤلاء أن ينتشلوه من فقره، وهو لم يأمل حمايتهم له من شرطيّةٍ. إنه يعلم أن حاضره هو مستقبله، ومستقبل أبناء جيله، الذي تحدده المافيات المالية المقسِّمة للسلطة بين رجال الأمن ورجال الأعمال الجدد. ولم يكن البوعزيزي يرضى الذل. هي الكرامة آخر ما تبقى له مع كسرة الخبز. لن يكون، بعد الآن، عاجزاً، لقد ابتدع سحره وأضاء المكان كله، ومن خلال ضوء جسده، فتَّحَ عيون شعبه أكثر على المليارات المنهوبة والمستقبل المصادر.
ولكانونَ طعمٌ آخر في تونس، إنه زمن الانتفاضات. انتفاضةُ الخبزِ في يناير/كانون الثاني عام 1984، وكان الخبزُ. وكانون تونس الآن، "ثورةُ الياسمين"، انتفاضة خبزٍ وكرامة. ولا كرامة بلا حرية، ولا كرامة بلا عدالة اجتماعية، وبالحرية تصان الكرامة. وللكرامة ثورة كاملة، إن نقصت أو توقفت هي انتحار. ونضجت المطالب مع نضوج حامليها، وهم الذين تفتحت عيونهم ولم يعودوا طيعين تخدعهم الأجهزة ويسلب الخوف إرادتهم. فالخبز والحرية والعمل والحياة الكريمة هي بوصلتهم نحو المجتمع الجديد.
في ذكرى احتراق البوعزيزي، هذه الأيام، لا تزال صورة زين العابدين بن علي، وخروجه الذليل طاغية على المشهد العربي، جنرال حكم البلاد طوال 23 عاماً بالقمع والإفساد ونهب المال العام وضرب العباد بيد من حديد. يخرج من الباب خلسةً، يخاف طيفَ البوعزيزي، وطيفَ أكثر من مائة شهيد تلطخت يداه بدمائهم. وهو بدا مرتبكاً وبدا خائفاً من الشارع الذي لم يعهد منه التجرؤ أو حتى الكلام. فبدا وهو يعد المواطنين بالإصلاح، ويدعو للانتخابات، وتشكيل اللجان للتحقيق في قتل المتظاهرين، ووعوده بالتخلي عن الحكم في العام 2014، بدا وكأنه يودع التونسيين، فهو علم أن الحركة الشعبية التي انطلقت لن تعود للقمقم، وهي لن تهدأ حتى تطال بأظافرها وجهه. كما أنه علم أن ما بدأ في بلاده سيطال آخرين، فترك الباب موارباً للحكام الظالمين يخرجون منه آمنين، وإن لم يفعلوا أخرجتهم شعوبهم من الأوكار. وفي ذكرى احتراق البوعزيزي، هذه الأيام، لا تزال روحه تحوم فوق مدن الفقراء، تعدهم بنهاية أزمنة الخوف والحرمان. ولا تزال ساطعةً في سماء الطغاة، تعدهم بأن نيرانه التي غدت قاطرةً للثورات العربية ستبقى متنقلة، ما دام الظلم قائماً، والحرمان والفقر عناوين الحكم.