عدو أم أداة للهيمنة الأميركية؟

عدو أم أداة للهيمنة الأميركية؟

25 يناير 2020
+ الخط -
ألقى أمين عام حزب الله، حسن نصرالله، في 6 ديسمبر/ كانون الأول 2011، خطاباً بمناسبة تنفيذ "الاتفاقية الأمنية" بين العراق والولايات المتحدة، معتبراً أنها انتصار للعراق ولـ"محور المقاومة" في المنطقة. وجاء في الخطاب: "في العراق اليوم، وخلال أيام قليلة، المفترض أن يُستكمل الانسحاب الأميركي من العراق. هناك هزيمة أميركية في العراق، هزيمة حقيقية، الأميركيون ما جاءوا إلى العراق ليخرجوا منه. لقد كان هدفهم وطموحهم البقاء في العراق للسيطرة عليه، وإقامة قواعد عسكرية محصّنة قانونياً وميدانياً لعشرات السنين فيه. ولكن المقاومة البطلة في العراق، صمود الشعب العراقي، صمود القوى السياسية، الكلفة العالية للاحتلال الأميركي في العراق، فرض عليها أن تأخذ خيار الانسحاب".
وكان العراق قد وقّع مع الولايات المتحدة اتفاقيتين عام 2008، الأولى "مركز القوات" (تداول الإعلام العربي تسمية "انسحاب القوات الأميركية" وهي غير صحيحة، وحتى مضلِلة)، وانتهى مفعولها عام 2011 بخروج القسم الأكبر من القوات النظامية الأميركية، وبقاء بضعة آلاف بصفة مدربين. والثانية، وهي الأهم؛ اتفاقية الإطار الاستراتيجي، التي لم تُحدّد بأجل، وشملت مجالات عدة، عسكرية وأمنية واقتصادية وثقافية. وقد صوت 149 عضواً في البرلمان العراقي لصالح الاتفاقيتين من أصل 275 بنسبة 54%، أكثريتهم من الأحزاب والقوى الدينية الشيعية المقرّبة من طهران، كالمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق وحزب الدعوة الإسلامية، بالإضافة إلى الحزبين الكرديَّين، وآخرين من الجهويين والعشائريين المرتبطين بـ"الصحوات".
وفي وقتٍ دعمت فيه إيران و"محورها" الاتفاقيتين، وروّجوهما انتصارا للعراق واندحارا 
للاحتلال، كما عبر خطيب "المحور" المفوّه نصر الله، لم تعترف القوى التقدمية العراقية والعربية الحقّة (التي لا تدور في فلك إيران ولا الرجعية العربية) بانتهاء الاحتلال الأميركي للعراق، وكانت نظرتها للاتفاقيتين أنهما تشرعان النهب الأميركي للعراق وثرواته، وتعظّمانه، حين سمحتا للاحتلال أن يتخفّف من الأعباء المادية والبشرية والقانونية لوجوده العسكري الكبير.
كان هذا الموقف الإيراني متصلاً بسياق سياسي انطلق مع بداية الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، حيث استغلت حالة الفوضى وغياب المناعة الوطنية بعد الاحتلال لمدّ نفوذها بين العرب الشيعة عبر القوى الدينية الشيعية المرتبطة بها. وكانت تسعى بذلك إلى تحقيق هدفين رئيسيَّين؛ الأول تعزيز ثقلها الإقليمي بإيجاد ولاءاتٍ لها في المحيط الشيعي العربي، وضرب الهوية القومية العربية الأكبر في المنطقة، بإعلاء الهوية الدينية الطائفية لدى العرب، وساعدتها في ذلك دول الرجعية العربية التي قدّمت خطاباً طائفياً معادياً للشيعة، وعملت على تطييف الأغلبية السنية، فتشكل وعيٌ هوياتي سنّي، لم يكن موجوداً في المنطقة العربية.
أما الهدف الثاني فهو استخدام العراق ورقة تفاوض مع الأميركان، تعزّز فرص دمج إيران غير المنقوص في النظام الدولي، بما يشمل رفع العقوبات الاقتصادية المستمرة منذ ثورة الخميني.
على الجانب الآخر؛ أتاحت الولايات المتحدة التدخل الإيراني في العراق بعد احتلاله، لأهدافها هي، المتمثلة في بناء نظام مرتبط بعلاقات تبعيةٍ معها، بحيث يبقى خاضعاً لهيمنتها على المدى البعيد، فسمحت للأحزاب الدينية الشيعية الموالية لطهران أن تشارك في العملية السياسية للمساهمة في شرعنتها شعبياً، وغضّت بصرها عن تشكّل مجموعاتٍ ومليشياتٍ مسلحةٍ بتمويل وتدريب إيرانيين، اشتركت في الحرب الأهلية التي اندلعت بعد تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء، 2006، في مواجهة قوى أصولية سنّية مدعومة عربياً، هذه الحرب أوقفت النزيف الكبير الذي ألحقته قوى المقاومة بجيش الاحتلال، وكلفته أكثر من أربعة آلاف قتيل وعشرات آلاف الجرحى.
من غير المرجّح جهل إيران باستهدافات السياسة الأميركية، لكنها كانت تعتقد أنه يمكنها الوصول إلى تقاسم مرضٍ مع الأميركان؛ لها نفوذها على الوسط الشيعي، ولهم الهيمنة الاقتصادية. لذا دعمت الاتفاقية الاستراتيجية، وروّجتها على أنها اندحار للاحتلال. ولكن أميركا بعد أن استغلت التدخل الإيراني، واستنفدت حاجتها منه، أعلنت اليوم أنها ليست في وارد المساومة، بل تريد كل شيء، واختارت طريقةً فجّة وصاعقة وحاسمة لإعلام إيران، باغتيال مهندس نفوذها الخارجي، قاسم سليماني، ونفذت ذلك على أرض العراق بالذات.
وعلاوة على الرسالة المباشرة التي حملتها عملية الاغتيال، قشعت الضباب عن حقيقتين: الأولى أنه لا استقلال حقيقيا للعراق، وكل من روّج لاستقلال وانتصار عراقي بخروج معظم الجنود 
الأميركيين ضلّل الناس، وخدعهم، خدمة لمصالحه. ثانيها ضعف النظام الإيراني وهشاشته، وما أدل على ذلك من صورة القيادي في حرس الثورة الذي تحدّث، وخلفه أعلام قوى تدعمها وأنشأتها إيران، فأراد إيصال رسالةٍ من الصورة، أن بلاده جزءٌ من محور واسع، لكن الصورة كشفت كم هي فعلاً وحيدة. صحيح أن علم حركة حماس كان ضمن الأعلام، ولكن التجربة بيّنت إلى أي حد يمكن الاتكال على ثبات موقف الحركة.
لم يحظ العالم العربي باستقلال حقيقي منذ جلاء الاستعمار المباشر، وظل محكوماً بنظم مستبدّة تابعة ومرتهنة لقوى الاستعمار القديم التي حافظت على نهبها ثروات دوله، ولكن بشكل شرعي وبلا كلفة عسكرية، وهو ما عرف بالأدبيات السياسية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بالاستعمار الحديث.
الولايات المتحدة، وريثة قوى الاستعمار الغربي في منطقتنا، أعادت تَتَابع الأنماط الاستعمارية نفسه، لكنها اختزلته بفترة لم تتجاوز ثمانية أعوام، فتراجع حضورها العسكري من نحو 170 ألف جندي إلى حوالي خمسة آلاف، بينما تعزّزت سيطرتها وهيمنتها الاقتصادية والسياسية، منتقلة من الاستعمار القديم إلى الحديث بطرفة عين، بمساعدة هؤلاء الذين يصدحون ليلا نهارا بمعاداتها وعزمهم إخراجها من المنطقة، بينما كانوا هم أنفسهم، وإنْ بلا وعي من بين أدواتها.
بالعودة إلى نصر الله؛ أميركا حاضرة في كل الدول العربية، ومنها لبنان، في نظامه الاقتصادي وتركيبة نظامه السياسي، اللذين اندمج حزب الله فيهما، ويدافع عنهما اليوم باستماتة، في مواجهة انتفاضة الشعب اللبناني. ولا داعي للتفتيش عن رجال المارينز وترحيلهم للتخلص من الهيمنة الأميركية. يكفي أن تتبنى برنامجاً اقتصادياً استقلالياً متحرّراً من علاقات التبعية الاقتصادية للمنظومة الدولية الأميركية بمؤسساتها المختلفة، وأن تحارب الطبقة السياسية الفاسدة المرتهنة لتلك المنظومة، لتضرب مصالح أميركا وتكافح هيمنتها. ولكن كل صياحك وشعاراتك تصبح فارغةً، وبلا معنى، حين تنخرط في الطبقة السياسية الفاسدة، وتكون أقصى أمانيك الاندماج بالمنظومة الاقتصادية الأميركية العالمية.