عتيق رحيمي في رواندا: حضرت الرواية وغابت السينما

عتيق رحيمي في رواندا: حضرت الرواية وغابت السينما

01 يناير 2020
عتيق رحيمي: أين الفيلم؟ (جوليان حكيميان/wireimage)
+ الخط -
في ثالث أفلامه الروائية الطويلة، "عذراء النيل"، يبتعد المخرج والكاتب الأفغاني عتيق رحيمي (1962) عن قارته وبلده، فيُنجز فيلماً عن إحدى أقسى مآسي التطهير العرقي وأبشعها في العصر الحديث، بالقارة الأفريقية، تلك التي وقعت بين قبيلتي "هوتو" و"توتسي" في رواندا، في تسعينيات القرن الماضي.

تجاسر عتيق رحيمي على تقديم ما لا ينتمي إليه تاريخياً أو عرقياً أو ثقافياً. سنده الأساسي اعتمادٌ على ذائقته الأدبية كروائيّ، فهو أحد الروائيين المعروفين حالياً، أقلّه في الأدب الفرنكوفوني. سينمائياً، اقتبسَ روايتين له، هما "أرض ورماد" (2014) و"حجر الصبر" (2012). "عذراء النيل" مأخوذ عن رواية أيضاً، لكن للأديبة الرواندية سكولاستيك موكاسونغا (1956).

لاستناد عتيق رحيمي إلى الرواية، وجاهةٌ. لكن، مع كل أدبٍ جديد مقتبس، إنْ يكن السيناريو له مُباشرة أو لسيناريست متمرّس، يأتِ النتاج الأخير على قدر كبير من التواضع الفني، ربما لغلبة المحتوى، أو للطابع الروائي، أو للسرد والحكي، مقارنةً بحضور السينما، كفنّ له مقومات تختلف كثيراً عن الرواية، أو تتقاطع معها أحياناً. لذا، تظلّ أفلامه عادةً أسيرةَ حكاياتها، بصرف النظر عن مدى عمقها أو جاذبيتها.

في "عذراء النيل"، يزداد الأمر صعوبة عليه، إذْ يتناول عالماً شديد الاختلاف عن بيئته وعالمه. الإعجاب بالرواية أو الموضوع وقسوته لا يُسوِّغ صناعة فيلم. مع ذلك، إعجابه بالرواية لم يُعِنه على إخراجها سينمائياً، ولا على تقديم الفنيّ. هناك أفلمة للرواية، لا أكثر ولا أقلّ. ربما لأنّ الرواية نفسها متواضعة للغاية، وأهميتها نابعةٌ من موضوعها المؤلم.

تدور غالبية أحداث الفيلم في مدرسة كاثوليكية ثانوية مهيبة، تُشرف عليها وتديرها راهبة بلجيكية، ويسكن فيها وفي جوارها مدرّسون بلجيكيون وفرنسيون. كمعظم الأفلام المشابهة، هناك أحداث كثيرة ولقطات طويلة بين جدران العنابر، لنقل عوالم الفتيات وشخصيّاتهنّ، التي تغلب عليهنّ البراءة، رغم الحبّ والمكيدة بينهنّ، أو الصداقة والكراهية، أو الحقد والتسامح، أو الفقر والثراء. في منتصفه، يُطرح كلامٌ عن عرقي "هوتو" و"توتسي"، ويظهر أنّ المدرسة مكوّنة منهما، وإنْ يُشكِّل "هوتو" الغالبية، مقابل نسبة ضئيلة لـ"توتسي" (10 بالمئة). رغم أهميتها، لا يذكر الفيلم هذه المعلومة، كغيرها من المعلومات الكثيرة، وأهميتها نابعةٌ من إحداث فرقٍ في فهم الأحداث والخلفيات وماهية الصراع.

تعود جذور الصراع إلى الفترة الفاصلة بين عامي 1959 و1962، مع قيام ثورة استبدلت النظام الملكي لـ"توتسي" بنظام جمهوري برئاسة "توتسي". عام 1973، بسبب مزاعم شتّى، وقعت بوادر تطهير عرقي لـ"توتسي" في المدارس والجامعات والمؤسّسات الحكومية والكنائس، ما أدّى إلى مشاكل كثيرة، وإلى فرار غالبية "توتسي" خارج البلد. في 1 أكتوبر/ تشرين الأول 1990، عاد الـ"توتسي" مع أبناء ولدوا خارج رواندا، لإعادة الأمور إلى نصابها. استمرّت المناوشات وحروب "كرّ وفرّ". عام 1994، في 100 يوم فقط، قُتل نحو مليون "توتسي"، و"هوتو" معتدلين، في إحدى أكبر الحروب الأهلية في تاريخ رواندا والقارة الأفريقية. في كلّ ما سبق ذكره، كان للبلجيكيين، خصوصاً في السبعينيات الفائتة، دور كبير، ولا سيما في إشعال الصراع، والعبث بهوية البلد، وإزكاء الروح الإثنية بين أكبر قبيلتين. وحتّى بالصمت والتكتم. الدور نفسه مارسته فرنسا في تسعينيات القرن الـ20.

يبدأ الفيلم من السبعينيات المنصرمة، في مدرسة "عذراء النيل"، المشيّدة على قمّة صخرية منيعة بعلوّ يبلغ 2500 متر، والمُشرفة على ما يفترض به أن يكون بحيرة، ينبع منها نهر النيل. ينتصب تمثالٌ للعذراء، أو ما يُعرف بـ"عذراء النيل"، ذات البشرة السمراء، رغم أنّه يتميّز بأنفٍ أوروبي رفيع، لا بملامح أفريقية عريضة. للموضوع أهميته، إذْ حاولت غلوريوسا (ألبينا كيرينغا) تغيير أنفها خلسة، بمساعدة صديقتها موديستا (بيليندا روبانغو)، وهما من "هوتو"، وجعله أفريقياً. تفشل المحاولة، وتتعرّض الشابّة لرضوض وكدمات، وتقع لاحقاً مأساة، ضحيتها عشرات الفتيات، بسبب انتمائهنّ العرقي: كذبت غلوريوسا، وأيدتها موديستا بصمتها، زاعمةً أنها وصديقتها تعرّضتا لاعتداء صبية "توتسي"، فتغضب "هوتو"، ويحضر الجيش لحراسة المدرسة. تدخل السياسة، وتُمارس ألاعيب، وتُقال أكاذيب. تنقسم الفتيات فيما بينهنّ، وتنقلب الأمور. في النهاية، يُهاجم شباب "توتسي" المدرسة، ويُنكَّل بالفتيات، انتقاماً لاتهامهم كذباً بالاعتداء.

بصرف النظر عن الخلفيات، إنّ أسباب ما شوهد من بذور الانقسام الإثني، المؤدّي إلى مذابح عرقية لاحقاً، لم يسعف "عذراء النيل" في تقديمها بشكل واضح ومُقنع، أو سهل الاستيعاب. على عكس الرواية التي تبرز قوّتها مقارنةً بعمل عتيق رحيمي، إذْ يسهل تبيان كيفية حدوث الانقسام، السياسي والطبقي والاجتماعي، وتفاقم الاستياء والسخط، واحتقان الأمور، ما أدّى إلى حتمية التناحر.

في ما يتعلّق بالخيط الغريب، أو غير المفهوم، لشخصية البلجيكي الأبيض، مسيو فونتوني (باسكال غريغوري)، المولع بالأهرامات والمعابد، وخصوصاً الفراعنة السود، يعتقد أنّ أصول فيرونيكا (كلارييلا بيزيمانا) وفيرجينيا (أماندا سانت موغابيكازي)، المنتميتين إلى "توتسي"، تعود إلى الفراعنة. مؤمن بأنّ فيرونيكا تشبه حفيدة حتشبسوت، إنْ لم تكن حفيدتها. هذا مرتبط بأسطورة تقول إن "توتسي" فراعنة غزاة من مصر، احتلوا رواندا واستعبدوا أهلها الأصليين، أي "هوتو"، قبل مئات السنين. سبب شيوع الأسطورة، وإنْ يكن جلياً في الفيلم هذه المرة لمن يدرك خلفيته، هو المستعمر البلجيكي، الذي يمثله السيد فونتوني. لكن بعيداً عن الأسطورة، كان "هوتو" مزارعين، و"توتسي" رعاة، منذ قرون بعيدة.

تتشابه أحداث الفيلم والرواية إلى حدود التطابق، باستثناء توزّع أحداث الفيلم على 4 فصول، مقابل 12 فصلاً في الرواية، بينما تفوّق الفيلم على الرواية بصرياً، إذْ اجتهد عتيق رحيمي، مع المصوّر ومهندس المناظر، في خلق بيئة وأجواء توحي ببيئة المدرسة وأجوائها، كما بالغابات والطبيعة المحيطة بها، واللعب بمهارة على التباينات اللونية، في ما يتعلق بالملابس والبيئة المحيطة والبشرة السمراء.

يُذكر أنّ والدة سكولاستيك موكاسونغا (مؤلّفة الرواية)، عاشت في مدرسة "عذراء النيل"، وقُتلت لاحقاً مع 27 شخصاً من عائلتها، في مذابح عام 1994. هذا دافع للكاتبة إلى تأليف الرواية، تخليداً لذكرى والدتها، وأرواح الضحايا، وتجنباً لطمس الحدث. "عذراء النيل" صدرت باللغة الفرنسية عام 2012، وترجمها لطفي السيد منصور إلى اللغة العربية، وصدرت في "سلسلة الجوائز" عن "الهيئة العامة المصرية للكتاب"، عام 2018.

المساهمون