عبّاس كياروستامي.. شتاء بالأبيض والأسود

عبّاس كياروستامي.. شتاء بالأبيض والأسود

05 يوليو 2017
(تصوير: كافيه كاظمي)
+ الخط -

"أشعر أنني مثل شجرة، شجرة لا تشعر أن عليها واجبَ أن تفعل شيئًا ما للأرض التي جاءت منها. شجرة تحمل الثمار والأوراق والبراعم، ولا تحتاج لأن تشكر الأرض التي نمَت فيها".

لم تكن استعارة الشجرة عند المخرج وكاتب السيناريو والمصوّر الفوتوغرافي الإيراني عباس كياروستامي (1940 - 2016) مجرَّد تعبير طارئ على لغته، بل كانت حاضرةً دومًا كمفهوم أساسي في فلسفته الفنية؛ فهو لم يتوقّف عن استخدامها في جمالياته البصرية في السينما أو الفوتوغرافيا. فالشجرة مفردة جوهرية في أعماله الفوتوغرافية. وهي تظهر دومًا كمعادل
لحياته في تجذّره في المكان الذي أتى منه، وعلاقته مع هذا المكان بتفاصيل بيئته وسياقاته.

ربّما، لم يحظ مخرجون كثيرون من منطقتنا بمكانة في السينما العالمية، كالتي كانت لكياروستامي، الذي تمرّ هذه الأيام الذكرى الأولى على وفاته عن 76 عامًا. قد يبدو مفهومًا التساؤل حول ما الذي قاد إلى كل هذا الاحتفاء بمخرج قادم من الشرق، ظل متجذِّرًا (يا له من وصف يُحيل إلى الشجرة وجذورها) في ثقافته المحلية. لِمَ كياروستامي ظاهرة نادرة في التاريخ السينمائي؟

الأمر في قلبه، من دون اختزال أي من زخارفه التي في حالة كياروستامي ضرورية وحتمية، هو عن تلك المسافة بين نظرتين: النظرة العالمية إلى منجزه التي ظهرت في ما قاله وكتبه النقّاد العالميون عنه، والنظرة المحلية التي تُفكِّك هذا المنجز في سياق جذوره المحلية. إنها "النظرة الحرة" إلى العالم، رغم القيود التي تعيش فيها بلاده. النظرة التي تتجاوز حدود الرؤية إلى التأمل الذي يظهر كمحرك أساسي لإبداع كياروستامي؛ ليُظهِر لنا جانبًا بريئًا وأصيلًا في الواقعي واليومي والمُعاش.

وحول هذه النظرة الحرّة، تشكَّل فهمه العميق لوجود الأشياء من حوله، وخلق بصمته الأسلوبية الخاصة التي تركت ظلالها على الفن السينمائي في بلاده، ونحتت لها موقعًا خاصًا في تاريخ
السينما. كل هذا تعزز بزخارف مواهبه المتشعَّبة ما بين السينما والفوتوغرافيا والشعر والرسم.




إنتاج كثيف
ترك كياروستامي أكثر من أربعين عملًا توزّعت بين الأفلام الروائية والوثائقية والأفلام الدرامية القصيرة. لفت الانتباه إلى فنه في الثمانينيات مع انطلاق أوّل أفلام ثلاثيته التي عرفت باسم "ثلاثية كوكر"، وهو اسم قرية إيرانية كانت موقع أفلامه الثلاثة فيها؛ حيث يعود فيها إلى موضوعاته التي ستظل أثيرة في ما هو قادم بعد ذلك من أعمال.

وعبر طفل في الثامنة من عمره، نرى كيف هو منظوره للواجب، من خلال محاولة الطفل إيصال دفتر زميله الذي نسيه لديه كي يكتب واجبه المدرسي الذي هدده المعلم بمعاقبته إذا لم ينجزه. ووسط هذا التحدّي البسيط في شكله الخارجي، يصطدم الطفل بتعقيدات عالم الكبار، وسط المفارقات يمرّ فيها من أجل الوصول إلى صديقه في القرية المجاورة.

وكما هو الحال في كل أعمال التي تنشغل بالريف الإيراني كفضاء مكاني للعمل، يستخدم كياروستامي جماليات المنظر الطبيعي في هذا الريف ليقدم حكايته التي تجسِّد ولعه الخاص بالتفاصيل الصغيرة المسماة اصطلاحيًا "المينيماليزم".

وبنظرة بانورامية، يمكن التمييز بوضوح بين أفلام كياروستامي المدينية والريفية، ففي الوقت الذي تغرق الشخصيات الريفية في جمال المنظر الطبيعي وتبدو مندمجة مع روح الطبيعة، ممتلئة بتفاصيل العلاقة معها، تختنق الشخصيات المدينية، التي عادة ما تكون من الطبقى الوسطى الإيرانية، في أزماتها وعالمها الكئيب والمشوش، كما يظهر مع بطل إحدى أيقوناته "طعم الكرز".

أما في "كلوز آب"، فقد كان اكتشافًا باهرًا للنقد السينمائي. العمل الذي انطلق من حكاية عرضية تتحدث عن شخص انتحل شخصية المخرج محسن مخملباف، أدخل كياروستامي إليه رؤية سينمائية شديدة الخصوصية يتقاطع فيها الروائي والوثائقي. حين جلب الشخص المنتحل وجعله بطل العمل ليجعلنا مرتبكين متسائلين عن الحدود بين ما هو واقعي وما هو متخيَّل. ويعيد تشكيل فن السينما بذهنية لا تدين لأحد بشيء ولا تتحرّك إلا في مساحات هي التي خلقتها دون استلهام او اجترار لآخرين.




الفوتوغرافيا كأم للسينما
انشغل كياروستامي في أعمال الفوتوغرافيا بأمكنة وعناصر لا تنفصل ولا تتناقض مع إنتاجه السينمائي. بل يبدو شريطه السينمائي في أغلب الأحيان ابن للقطات فوتوغرافية ليس من الصعب إرجاعها لعينه.

فمنذ الثورة الإيرانية (1979)، وحين كان العمل السينمائي مهدّدًا بالتوقف في الدولة المضطربة، ويكاد يكون محظورًا، لم يكن في إمكان الشاب الذي قارب نهاية الثلاثينيات خيار سوى شراء كاميرا وممارسة التصوير الفوتوغرافي.

هكذا كانت البداية. الصور الأولى التي التقطها كانت في فصل الشتاء. ومن وقتها كان يعود كل عام إلى موضوع الشتاء ويأخذ المزيد من الصور. ثمَّة مجموعة فوتوغرافيا أخرى حول المطر. هناك واحدة أيضًا عن الجدران، وبالطبع لديه مجموعة فوتوغرافية عن الأشجار.

يركز كياروستامي في الفوتوغرافيا خاصته دومًا على موضوع واحد. لهذا تظهر صوره كمجموعات. فحين يحدد موضوع كالدرج، لا يعود يرى شيئًا سوى الأدراج. لا يركز على أي شيء آخر. ظل لسنوات يأخذ صورًا للأشجار. وسنوات أخرى يأخذ فيها صورًا للمطر.

حين كان يتساقط الثلج، يتحرّك ليس بعيدًا عن منزله في طهران، وقت الفجر ويحاول العثور على أفضل الأمكنة لالتقاط المشهد الأبيض الممتد. ومن الظلال الطويلة في صوره، نستنتج أنه كان يفضّل بداية الصباح، أو قرب المساء كأوقات للتصوير. ومنذ أوّل شتاء التقط فيه الصور، شعر أن ليس للون دور واضح في نهار الشتاء الغائم، فقرّر أن يلتقط دومًا صور الشتاء بالأبيض والأسود.

يبدو وكأن كل ما يجذب كاميرته يترك نفسه له. يرى أن الشيء الجيد عن الثلوج كموضوع هو أنها تخفي التفاصيل السيئة. كل شيء معها يبدو بريئًا من دون تدخلاّتنا التي تظهر أغلب الوقت كتشوّهات للمشهد الطبيعي.

سُئِل في حوار له عن إن كان يتعمد أن تُظهر كاميرته دومًا أشياء جميلة. لكنه بعفوية رفع عن كاهله أي فلسفة أو مبرّر لعدم إظهار الأشياء القبيحة: "كاميراتي تنجذب إلى الأشياء الجميلة. هذا كل ما في الأمر".

وهو الشيء نفسه الذي قاله عن أفلامه ولو بصيغة أخرى عن إن كان يتعرَّض لمضايقات الرقابة في بلده: "لا أعتقد أن في أفلامي شيئًا يحتاج إلى عمل رقابة. لكن هذا لا ينفي وجود الرقابة".

ورغم الربط النقدي الدائم بين صوره الفوتوغرافية وشريطه السينمائي، ظل دومًا يشعر بعدم القدرة على الربط بين الاثنين. يرى أن في استطاعة المشاهد، حتى لو كان من المارّة، أن يعثر على أوجه التشابه بين فوتوغرافيته، وأفلامه، على نحو أسهل من قيامه بالمهمّة نفسها ناحية منتجه.

حاول كياروستامي دومًا أن يزيل نفسه كحاجز بين الجمهور والموضوع. فالطبيعة لا تحتاج إلى أي تفسير أو وسيط لتصل إلى الجمهور. أما أفلامه فترصد دومًا تعقيدات حياة البشر ومِحنهم. لكن في صوره نادرًا ما يكون هناك حضور للبشر. وإن تقاطعت الصور مع بعض أعماله التي تتحرّك في فضاء الريف مثل فيلم "ستحملنا الريح".

سُئل من قبل إلى أي مدرسة من مدارس التصوير ينتمي. لكنه وكما في السينما، لم يكن في استطاعته يومًا أن يصنف نفسه منتميًا لإحدى المدارس الموجودة بالفعل. ورُغم الحيرة التي تشوب رده. إلا أن الأمر لانتماء كياروستامي لأنماط بعينها يبقى حقيقيًا. كحال أي فنان يخلق كل شيء في عالمه، من لا شيء.

المساهمون