عبيد الكتابة (1)

عبيد الكتابة (1)

19 مايو 2019
+ الخط -
كان لعمنا كامل الشناوي أسلوب مميز في الكتابة، يضيق صدره بالكتَّاب الذين يكتبون بسرعة، ويزيد حنقه عليهم إذا اقترنت سرعة كتابتهم بالجمود الفني، لذلك خلع عليهم لقب "رصاصو الحروف"!

أما الشناوي فكان بطيئًا في الكتابة، ربما تأنقًا أو انتظارًا لمخاض الفكرة، أو غير ذلك من الأسباب، ولعلني ألتقيه يومًا فأخبرك بزبدة الموضوع، وعند جهينة الخبر اليقين.

المهم أن الشناوي لم يكن بطيئًا وحسب، لكنه كان سريع الملل، ويمكنك اعتباره من أبطال الثواني الأخيرة؛ فلم يُسلِّم مقالًا في موعده، ويمطره زملاؤه بوصلة طويلة عريضة من "الزن" والإلحاح حتى ينجز المقال! كان يُمضي وقتًا طويلًا في انتقاء العبارة، ويشطب كثيرًا، ويمزِّق الورق غير مرة، ويكتب من جديد وهكذا دواليك!

يمكنك، وبدرجة عالية من الاطمئنان، أن تضم الشناوي إلى قائمة "عبيد الكتابة" على غرار عبيد الشعر؛ فمن هم عبيد الشعر أصلًا؟! يراد بعبيد الشعر أولئك الذين يتأنقون في كتابة أشعارهم، وينقحونها ويعتنون باللفظ منتهى العناية، وينقِّبون في الألفاظ ويقلبونها على كل وجه، ويختارون لكل معنى أدق لفظ يناسبه، كأنما تحول الواحد منهم إلى "جواهرجي" في الصاغة يزن ويميز، وربما بالغ بعضهم في تنقيح ما كتب.


من أشهر عبيد الشعر زهير بن أبي سلمي، كان ينظم القصيدة في شهر، ثم لا يذيعها إلا بعد طول معالجة وتعديل يبلغ مداها عاما بأكمله؛ فأطلقوا على قصائده "الحوليات".

قيل إن زهير هو من أطلق على قصائده الكبرى السبع "الحوليات"، وكان ينظم القصيدة في أربعة أشهر، وينقِّحها في أربعة أشهر، ويعرضها في أربعة أشهر. وزهير ثالث ثلاثة من عمالقة شعراء العرب الجاهليين، ومعه امرؤ القيس والنابغة الذبياني. هنا، حبذا أن نقف مع النابغة قليلًا؛ فالرجل –واسمه زياد بن معاوية وكنيته أبو أمامة- من عبيد الشعر كما يرى الأصمعي، ولنضرب مثالًا يتضح به المقال.

تتقاطر وفود الشعراء كل عام إلى سوق عكاظ، وفي السوق قبة من أدم ضربت للنابغة يحكم فيها، وشهادة النابغة لأحدهم تعدل شهادة الماجستير لطبيب الامتياز؛ فبها يفتتح لنفسه عيادة شعرية خاصة ويبدأ ممارسة المهنة بثقة واقتدار. في بعض الأيام، يدخل أبو بصير ميمون بن قيس (أعشى قيس)، ويخلع عليه النابغة لقب شاعر، وبعده بقليل تدخل تماضر بنت عمرو بن الشريد (الخنساء)، ويخلع عليها اللقب نفسه.

إلى هنا، لعلك تتوهم أنه لا جديد، لكن إن صبرت قليلًا، أخبرتك أن حسان بن ثابت الأنصاري -الصحابي لاحقًا- كان في القبة، وبعدما أقر النابغة للخنساء بشاعريتها قال حسان: أنا أشعر منها ومنك! فالتفت النابغة بهدوء العلماء إلى حسان قائلًا: حيث تقول ماذا؟ فأجابه: حيث أقول: (لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى/ وأسيافنا يقطرن من نجدةٍ دما/ ولدنا بني العنقاء وابني محرِّقٍ/ فأكرم بنا خالًا وأكرم بنا ابنما).

قال أبو أمامة: إنك شاعر! ولكنك أقللت جفناتك وسيوفك وقلت "يلمعن بالضحى"، ولو قلت "يبرقن بالدجى" لكان أبلغ في المديح؛ لأن الضيف بالليل أكثر طروقًا، وقلت "يقطرن من نجدةٍ دما" فدللت على قلة القتل، ولو قلت "يجرين" لكان أكثر لانصباب الدم، وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك، ولن تستطيع أن تقول (فإنك كالليل الذي هو مدركي/ وإن خلت أن المنتأى عنك أوسع).

لعلك تلحظ من نقد النابغة لكلمات بيتي حسان مدى العمق الذي يغلب على النابغة؛ فالنقد براغماتي عملي لا يتحيز ولا يتصيد، وقد أقنعك بكل كلمة ذكرها ولم يترك الأمر مبهمًا، ثم أكد سيادته وريادته وردّ على مقالة حسان "أنا أشعر منك ومنها" بطريقة عملية كذلك؛ إذ عرض له ببيته الشهير "فإنك كالليل" وقال لحسان: استيقظ من سباتك؛ فإنك لن تستطيع أن تقول قصيدةٍ كهذه! لكن المدهش أنه لم يبدأ بها، وهذا لرجاحة عقله وإلا لكان نقده انتقامًا شخصيًا.

وبالإضافة إلى زهير والنابغة، كان الطفيل الغنوي من عبيد الشعر، ومن المخضرمين الحطيئة القائل "خير الشعر الحولي المحكَّك"، والنمر بن تولب، ومن شعراء الدولة الأموية ذو الرُّمة ومروان بن أبي حفصة.

واختلف النقاد في تمييز عبيد الشعر عن غيرهم، وتحدثوا عن الطبع والصنعة، ووقع الإسماح في النفس مقارنة بالتكلُّف، وأطلقوا بعض التسميات على الشعراء كما أطلق أبو عمرو بن العلاء على النمر بن تولب "الكيِّس"، وأطلقوا على آخرين "المحبِّر"، وأفاض الجاحظ والثعالبي وابن رشيق وابن قتيبة في هذا السبيل.

لكن الدكتور أحمد سليمان الأحمد ينقلنا إلى مساحة مغايرة، وفي مقال بمجلة المعرفة السورية عنوانه "من عبيد الشعر إلى الشعر الجماعي"، العدد 76 الصادر في الأول من إبريل 1968، يقول: "عرف في تاريخنا الشعري القديم جماعة يقال لها "عبيد الشعر" أي أنهم كانوا يكثرون العناية به، ويحيطونه بكل ضروب العناية؛ فهم يهذبونه ويشذبونه، ويعرضونه على طبقة من القراء، أو بكلمة أصح، من المستمعين والرواة؛ فيغيرون كلمة هنا أو تعبيرًا هناك، وقد يحذفون ويضيفون تبعًا لذلك". ثم ينعى سليمان على الشعراء الجدد الذين يشترك عدد منهم في كتابة قصيدة واحدة، ثم لا تعيش ثلاثة أيام!

بعد هذا التطواف، هل كان يحيى حقي من عبيد الكتابة؟ وماذا عن غوستاف لوبون؟ ومن أشهر عبيد الكتابة في عالم الأدب الحديث؟ هذا ما نعرض له في الجزء الثاني بحول الله ومنته.

دلالات