عبد المجيد تبون على خطى أسلافه: "دستور لكل رئيس"

عبد المجيد تبون على خطى أسلافه: "دستور لكل رئيس"

08 يناير 2020
حضور طاغ لشعار "دولة مدنية وليست عسكرية" بالحراك(العربي الجديد)
+ الخط -

وضع الرئيس الجزائري الجديد عبد المجيد تبون على رأس أولوياته السياسية طرح مسودة دستور جديد، يتوقّع أن يكون محلّ حوار سياسي سيطلقه في وقت لاحق، قبل طرحه لاستفتاء شعبي، مكرساً بذلك مسار "دستور لكل رئيس"، منذ أول دستور للبلاد طرح عام 1963 مع الرئيس أحمد بن بلة، ثمّ الرئيس هواري بومدين الذي طرح دستوره عام 1976، فالرئيس الشاذلي بن جديد الذي طرح دستوراً أنهى حكم الحزب الواحد وفتح الباب أمام التعددية السياسية. ليليه الرئيس ليامين زروال الذي طرح دستوراً جديداً كذلك عام 1996، وجاء أخيراً الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي طرح سلسلة تعديلات دستورية أعوام 2002 ثمّ 2008 وأخيراً في عام 2016.

لكنّ التعديلات الدستورية المقبلة، والتي تأتي في ظرف سياسي خاص، وفي ظلّ استمرار الحراك الشعبي، تفرض على تبون تجنّب تعديلات شكلية، والذهاب إلى تعديلات تعيد بناء النظام السياسي، عبر إعادة تصميم مواد تدخل في صميم عمل النظام والعلاقات الوظيفية بين مؤسسات الدولة.

وأعلن تبون، الأحد الماضي، عزمه على طرح تعديل عميق للدستور لبناء ما يصفها "الجمهورية الجديدة"، ويستهدف تغيير كامل منظومة الحكم في البلاد، وإجراء مراجعة شاملة للقوانين الناظمة للحياة السياسية، وفصل المال عن العمل السياسي في الجزائر. وطرح تبون الملامح الأولى للدستور الجديد في شكل أفكار عامة تخصّ الفصل بين السلطات، وإحداث توازن بين المؤسسات، وتعزيز استقلالية القضاء، وأخلقة الحياة السياسية، وترقية الديمقراطية والرقابة، وتحرير الإعلام.

وإذا كان تبون في مرحلة تبدو فيها الجزائر بصدد استئناف انتقال ديمقراطي، في ظلّ نظام سياسي يعاني أزمة مؤسساتية ومأزق ثقة عميقة بين السلطة والشعب والمكون السياسي، فإنّ مجموع المكونات السياسية في البلاد تعتبر أنّ أيّ إصلاح دستوري وسياسي يجب أن يتوجه إلى إنهاء هيمنة سلطة الرئيس على السلطتين التشريعية والقضائية، وإصلاح الاختلالات المتعلقة بعدم استقلالية القضاء، وتلك المتعلقة بغياب المساءلة والهيئات الرقابية، فضلاً عن معالجة إشكالية تحكّم القوى غير الدستورية والكيانات الموازية في صناعة القرار، إلى جانب الأزمة على مستوى التمثيل السياسي.

وفي السياق، يشير خبراء دستوريون إلى أنّ التعديلات المرتقبة يجب أن تقلّص بشكل معقول من صلاحيات رئيس الجمهورية في الجزائر، والذي يمنحه الدستور صلاحيات ملكية، إذ إنه يمثّل رأس السلطة التنفيذية، وينازع البرلمان سلطة التشريع، إذ يملك صلاحية إصدار القوانين بالأوامر الرئاسية، كما أنه رأس السلطة القضائية، كونه رئيس المجلس الأعلى للقضاء. ويفترض أن ينهي الدستور المقبل هذا التداخل، عبر تمكين القضاة وأسرة العدالة من انتخاب رئيس المجلس الأعلى للقضاء، واستبعاد أي سلطة للرئيس أو وزير العدل على المجلس، وهو ما سيحرر القضاء بشكل كامل من أي ضغوط سياسية. هذا بالإضافة إلى مسألة مراجعة طبيعة النظام السياسي من نظام رئاسي إلى نظام شبه رئاسي يتقاسم فيه الرئيس السلطة مع رئيس الحكومة الذي يتوجب أن يتم تعيينه من قبل الحزب أو الائتلاف الفائز بالانتخابات النيابية. ويدخل في هذا السياق مراجعة شروط الترشّح للرئاسة والبرلمان، وكذلك مراجعة صلاحيات الهيئات المحلية المنتخبة، والحدّ من سلطة المحافظين على المجالس المنتخبة في البلديات.

وتذهب بعض الاقتراحات الأولية إلى ضرورة تركيز السلطة العليا للانتخابات كهيئة دستورية مخولة بالإشراف الكامل على تنظيم ومراقبة نزاهة الاستحقاقات الانتخابية، وكذا تعزيز حماية الحريات السياسية والمدنية وتقييد عمل الأجهزة الأمنية في هذا الشأن، إضافة إلى تعزيز حرية التدين والتعبير والإعلام والصحافة التي تعدّ إحدى أبرز عناوين الأزمة السياسية في الجزائر.

ويمثّل الجيش ودور المؤسسة العسكرية في المشهد السياسي، انشغالاً مركزياً بالنسبة للجزائريين في الوقت الحالي، خصوصاً مع حضور طاغ لشعار "دولة مدنية وليست عسكرية" في الحراك الشعبي منذ فبراير الماضي. وترغب قوى سياسية ومدنية في أن يحدد الدستور بوضوح أكبر دور الجيش، ومنع تدخله في الشأن السياسي، أكثر مما هو منصوص عليه في الدستور الحالي، مع إمكانية مراجعة تمليها التطورات الإقليمية بشأن بعض الأزمات في دول الجوار، كليبيا ومالي، بخصوص العقيدة الدفاعية للجيش، والتي تمنعه من أي إسهام في الدفاع عن الأمن القومي خارج الحدود الوطنية.

وقد تكون هذه القضايا محلّ توافق سياسي بين مختلف المكونات في المشهد الجزائري، لكن بعض القوى الإسلامية والمحافظة تتجه تخوفاتها المبدئية نحو المواد المرتبطة بمسائل الهوية واللغة والثقافة وموقع النصّ الإسلامي من التشريع، خصوصاً مع وجود نزعات لدى تيارات أمازيغية في تكريس حضور أكبر للغة الأمازيغية في الدستور، على الرغم من اعتبارها منذ عام 2016 لغة وطنية ورسمية، فضلاً عن ضغط تيارات تقدمية لإلغاء المادة التي تتحدث عن أنّ الإسلام هو الدين الرسمي للبلاد، واعتبار الشريعة المصدر الرئيس للتشريع. لكن هذه المخاوف تبقى ظرفية، خصوصاً أنّ تبون لن يقدم على ما يمكن أن يثير مشاعر القطاع الغالب في الجزائر، سياسياً وشعبياً، لا سيما وأنّ القوى المحافظة والإسلامية تظلّ أكبر حضوراً وبشكل طاغ في البلاد.

واستبقت بعض القوى السياسية والمدنية إعلان تبون عزمه طرح مسودة دستور جديد، بتقديمها مقترحات سياسية في هذا الشأن. وفي هذا الإطار، نشرت حركة "عزم" الفتية التي ولدت من رحم الحراك الشعبي، قبل أيام، ما وصفتها بـ"وثيقة الإصلاح السياسي والدستوري"، وطالبت فيها بالعودة إلى دستور عام 1996، كونه مرّ عبر الاستفتاء الشعبي آنذاك، وبأن يكون نقطة الانطلاق والمرجع لتعديلات دستورية جديدة، على أن تتمّ صياغة هذه التعديلات داخل ندوة وطنية "توكل إليها مهمة فتح ورشات متخصصة حول مسألة مراجعة الدستور، واقتراح مجمل الإصلاحات المتعلقة بالقوانين العضوية الناظمة للحياة السياسية، لا سيما قانوني الأحزاب والانتخابات، وكذا اقتراح ميثاق شرف جامع لأخلقة الحياة السياسية".

وحدّدت الحركة النقاط التي يمكن أن تشملها التعديلات الدستورية الجوهرية، والتي قالت إنه يتوجب أن تمسّ المواد المتعلقة بالفصل بين السلطات، وتكريس استقلالية القضاء عن طريق توسيع صلاحيات المجلس الأعلى للقضاء واستقلاليته برفع وصاية السلطة التنفيذية عنه وعن العدالة. بالإضافة إلى تقييد صلاحيات التعيين لرئيس الجمهورية، لا سيما تعيين الوزير الأول والحكومة، فضلاً عن التعيين في الوظائف والمناصب السامية في الدولة، ووضع شروط جديدة للترشّح لمنصب رئيس الجمهورية، منها تحديد السن الأقصى لذلك، وتعزيز أدوات وآليات الرقابة البرلمانية، وترسيخ مبدأ الانتخاب بدل التعيين في مختلف المجالس الرقابية (مجلس المحاسبة، المجلس الدستوري، المجلس الأعلى للقضاء، السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات)، والمؤسسات الدستورية المستقلة.

ويعتقد متابعون للشأن السياسي في الجزائر، أنّ الرئيس تبون أمامه خيار وحيد، هو طرح مسودة دستور جديد بالكامل، بدلاً من إجراء تعديلات قد تزيد من ترقيع الدستور الحالي.

وفي السياق، يرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة ورقلة جنوبي الجزائر، مبروك كاحي، أنّ "الدستور الجزائري استنفذ كل التعديلات، وهذا يعني إمّا الإبقاء عليه أو طرح دستور جديد. والأمر الأخير غير متاح في الوقت الحالي، كونه يتطلّب وقتاً أكبر وجهداً سياسياً أوسع، خصوصاً بشأن المواد التي تشكّل مصدر استقطاب سياسي". ويضيف كاحي، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "ثمّة مشكلة أخرى تواجه تبون، تتعلق بافتقاده لحزام سياسي يدعمه بشكل صريح"، موضحاً أنه "في حال طرح الدستور للاستفتاء الشعبي، فإنّ الرئيس بحاجة إلى قاعدة سياسية حقيقية، وهو يغامر في حال ذهب إلى استفتاء من دون غطاء سياسي. كما أنه لا يمكنه تعديل الدستور من دون إجراء مشاورات سياسية حقيقية، والتجربة أثبتت أنّ تبون تنقصه الحكمة، والدليل صراعه مع رجال المال وقت أن كان يشغل منصب رئيس الحكومة، فهناك من نصحه بالحكمة والتريث، لكنه لم يسمع، والنتيجة كانت الإطاحة به في أغسطس/آب 2017".

وليس واضحاً في الوقت الحالي الكيفيات التي سيعمد إليها تبون لصياغة الدستور الجديد، وما إذا كان الرجل سيقدم على فتح حوار سياسي ومشاورات بالطريقة نفسها التي اعتمدها الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة في تعديلات 2016، أم سيلجأ إلى عقد مؤتمر أو ندوة وطنية، أو تشكيل هيئة موسعة من الخبراء والمستقلين لصياغة الدستور، مع أنّ ذلك سيثير حفيظة القوى السياسية والمدنية التي ترغب في أن تتم أي مقترحات للتعديلات الدستورية في شفافية، وأن تكون شريكة مركزية فيها. وهناك أيضاً عامل الزمن، إذ كان تبون قد أعلن في أول خطاب ألقاه في حفل أدائه اليمين الدستورية في 19 ديسمبر/كانون الأول الماضي، عزمه طرح تعديل شامل للدستور في غضون الأشهر الثلاثة الأولى التي تلي تسلّمه السلطة، ثمّ استدرك ذلك، وقال إنه قد يقدم على هذه الخطوة خلال الأسابيع الأولى من حكمه. وهي فترة قصيرة جداً، في مقابل رغبته في طرح دستور جديد وإجراء تعديلات عميقة تمسّ جوهر النظام السياسي والصلاحيات بين مؤسسات الدولة. وهو أمر يدفع ببعض المراقبين إلى طرح شكوك في إمكانية أن يكون النصّ الدستوري قد جُهّز من طرف السلطة الفعلية في وقت سابق أصلاً، خصوصاً أنّ حديثاً من هذا النوع كان سارياً في المشهد الجزائري عشية الانتخابات الرئاسية التي ألغيت في إبريل الماضي، وفقا لرئيس حركة "البناء"، عبد القادر بن قرينة حينها.