عبد الكريم الضحّاك الذي غادرنا

عبد الكريم الضحّاك الذي غادرنا

26 ابريل 2019
+ الخط -
لا تربطني وحزب البعث أي مودّة أو احترام، ولم أجد يوما في تاريخه ما يدعو إلى الإعجاب، ولكنّ بعض بعثيين قدامي يثيرون احترامي، من بينهم عبد الكريم الضحّاك (توفي في 15 إبريل/ نيسان الحالي) الذي اعتقل ولوحق في الخمسينيات، وحين وصل حزبه إلى السلطة صبيحة 8 مارس/ آذار 1963، تلكأ في الانضمام إليه. وحين فاجأ الجنرال حافظ الأسد رفاقه بانقلاب 16 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1970 الذي أوصله، وهو وزير الدفاع الذي أعلن سقوط الجولان قبل دخول القوّات الإسرائيلية، إلى سدّة الحكم، كان موقف الضحّاك واضحا لا لبس فيه: لن أنضمّ إلى جوقة المطبّلين الذين انتقلوا فجأة من مواقع اليسار الطفولي إلى مواقع "الاعتدال العربي" و"التضامن العربي".
وحين لملم بقايا البعثيين الذين رفضوا العمل مع الجنرال المنتصر صفوفَهم في حزب سرّي صغير، كان عبد الكريم في قيادته، معطيا التنظيم الروح والمثالية والدماثة التي كان التنظيم يفتقدها بشدّة. وفي أواخر السبعينيات، تمّ تأسيس التجمّع الوطني الديمقراطي من خمسة أحزاب: الاتحاد الاشتراكي العربي والحزب الشيوعي - المكتب السياسي وحزب العمّال الثوري وفصيل من حركة الاشتراكيين العرب وحزب البعث الديمقراطي الاشتراكي العربي الذي تعوّدنا لطول اسمه أن ندعوه 23 شباط، أو ببساطة أكثر الشباطيين. وكان عبد الكريم بين القلّة الذين لعبوا دورا إيجابيا في تأسيس هذا التجمّع الذي قاده وقتها جمال الأتاسي، ومثّل "الشباطيين" في قيادة التجمّع.
ولكن مكانة عبد الكريم لا تأتي من نضاله السياسي، وهو كبير وقديم ومؤثر، وإنما من الروح 
الجميلة المتوثّبة التي يحملها، ومن الابتسامة الدائمة التي تجدها في كلّ حين على وجهه. في السجن، كان دائما صمّام الأمان وبيضة القبّان، والملجأ الذي يلجأ إليه الجميع لحلّ مشكلة أو المساعدة في أمر مستغلق. وبينما لم أتشارك السجن معه، فقد عرفت كثيرين ممن كانوا ينامون معه في مهجع واحد، ولم أر بينهم من لا يكنّ له عميق الاحترام والمحبة الخالصة.
ومع ذلك، تأتي مأثرة الضحّاك الكبرى من مكان آخر. في منتصف السبعينيات، تمّ تعيين الرجل مديرا للمركز الثقافي في سلمية، وقد استطاع، خلال فترة قصيرة، تحويل المركز في تلك المدينة الصحراوية الصغيرة مركزا مشعّا ومستقطبا. كان الضحّاك يتمتّع بجرأة كبيرة وشجاعة فائقة، ولكن أيضا ببعض التهوّر والاستهتار، وكثير من السخرية من الأجهزة الأمنية والقيادات الحزبية ذات الأفق المغلق التي تقود مدينته ومحافظته وبلده.
جعله ذلك كله الملاذ الآمن للكتاب والفنانين والمثقفين المارقين الذين ما كانت منابر "البعث" مفتوحة أمام قصصهم وقصائدهم ولوحاتهم ومسرحياتهم. وكان الضحّاك يبحث عن أولئك المارقين بجهد ونشاط، ويرسل في طلبهم، ليقيموا أمسياتهم ومعارضهم في السلمية.
حين رفضت المراكز الثقافية وغيرها عرض مشروع تخرّج الفنان النادر منير الشعراني "القمع والتسلط العسكري" في عام 1977 في دمشق وحمص وحماة، أرسل له عبد الكريم (أو كما نناديه ألفة وتحببا أبو سليمان) رسالة باسم المركز الثقافي في سلمية، دعاه فيها لإقامة معرضه هناك. ويروي الشعراني، وهو الفنان الذي أعطى الخطّ العربي حياة جديدة بعد أن كاد يزول، أن أبو سليمان أرسل له، مع الكتاب الرسمي، رسالةً شفيهة كان مضمونها "أَحضرِ الممنوع قبل المسموح". وكالعادة غصّت قاعة المركز في افتتاح المعرض، وفي الندوة التي أقامها المركز حول المعرض، لتبدأ بين الرجلين بعدها صداقة لم يخفت وهجها يوما.
وفي السنة نفسها التي أقام فيها منير معرضه، كان لي شخصيا من كرم الضحّاك نصيب. كنت فتىً في أول العشرينيات، وكنت قاصّا ناشئا وثوريا يرى الثورة على مقربة دمعة عين، وقد 
فزت قبل سنة بجائزة أفضل قصّة في جامعة دمشق، وبنيت بين اليساريين الجدد الذين كانوا يعتقدون، وكنت بينهم، أن العالم سيتغير على أيديهم، سمعةً لا بأس بها. ولكنني تظلّلت وقتها بسمعة شابين كانا يتصدّران المشهد الثقافي الشاب: صديقيّ، الراحل جميل حتمل والشاعر فرج بيرقدار. وكان كلّ واحد منا تهمة بحدّ ذاته، ولكن عبد الكريم لم يكن يأبه، فدعانا إلى إقامة أمسية مشتركة. وأيضا غصّت القاعة بالسلامنة الجميلين المثقّفين المرهفين. تجلّى جميل وتجلّى فرج وتجليت أنا، وكنت أرقب الضحاك في الصف الأول، وهو يبتسم بغبطة.
وكالعادة أيضا، دعانا السلموني الأصيل، علي صبر درويش (أبو الصبر)، إلى سهرة في بيته. لم أكن قد التقيته من قبل، وكان أن اعتقلني، حرفيا، وأردفني وراءه على متن الموتورسيكل المشهور الخاص به، وطار بي إلى البيت، يلحقنا الرهط من الأصدقاء. لم أشعر في حياتي بمثل الدفء واللفة والثقة بالنفس التي أحسست بها يومذاك. ولم أعرف أبدا هذا المستوى من تقبّل الآخر والاختلاف برحابة صدر، كما عرفته هناك. أقلّنا حديثا كان عبد الكريم الضحّاك، ولكنني كنت أشعر أن روحه وثقافته وسعة صدره هي التي كانت تلهم الجميع. وبين الحين والآخر، يعزف شاب حييّ على العود ويغنّي.
لم يطل أبو سليمان مكوثه في إدارة المركز. في مساء يوم شتائي من 1980، كان يغذّ خطاه إلى بيت المكتب السياسي للحزب. كانت السلطة قد بدأت بحملة اعتقالاتٍ طاولت جماعات المكتب السياسي والشباطيين، وغيرهم من التجمّع الوطني الديمقراطي، فترك الرفاق البيت، وأزالوا إشارة الأمان لينبهوا القادمين، غير أن أبو سليمان الذي لم يكن يُعرَف عنه الحذر الأمني، ويبدو أن شاغلا كان يشغله، لم ينتبه إلى أن إشارة الأمان التي كانت توضع في العادة على نافذة البيت قد أزيلت. فطرق الباب، ولكن من فتحه له لم يكن أحد من الرفاق. كان ضابطا في الأمن. وغاب أبو سليمان اثنتي عشرة سنة في السجن.
وداعا أبو سليمان.
8B0BB846-CF42-461B-9863-1B914FC64782
8B0BB846-CF42-461B-9863-1B914FC64782
وائل السواح

باحث سوري في قضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان. عضو في المكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريين ورئيس تحرير موقع "سيريان أبزرفر" ومسؤول تحرير في موقع الأوان.

وائل السواح