"طعنة في الظهر من أعوان الإرهابيين"، هكذا كان رد فعل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على حادثة إسقاط قاذفة "سوخوي 24" من قبل سلاح الجو التركي في مثل هذا اليوم قبل عام. ووجهت تركيا آنذاك اتهاماً إلى روسيا باختراق مجالها الجوي، بينما كانت موسكو تصر على أن الطائرة كانت تحلق ضمن المجال الجوي السوري. ووجه بوتين انتقادات لاذعة إلى القيادة التركية، محملاً إياها مسؤولية "أسلمة البلاد"، ومطالباً بالاعتذار عن واقعة إسقاط الطائرة الحربية.
وبين ليلة وضحاها تحولت تركيا في الخطاب الإعلامي والرسمي الروسي من أحد أهم الشركاء إلى "دولة داعمة للإرهاب" تشتري النفط من تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). واتهم بلال، نجل الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بالضلوع في هذه الأعمال، وكان يتم تقديم صوره مع رجال ملتحين على أنها دليل على صلته بالتنظيم الإرهابي. ومنذ ذلك الحين، مرت العلاقات بين البلدين بمجموعة من المحطات، بدأت بتطبيق موسكو عقوبات اقتصادية على أنقرة، تمثلت في حظر الرحلات السياحية إلى المنتجعات التركية، وحظر استيراد المنتجات الزراعية التركية، ومنع الشركات التركية من العمل في مجالي السياحة والبناء وحظر توظيف الأتراك في روسيا، كما تم تعليق المفاوضات حول تحقيق مشروع "السيل التركي" لنقل الغاز ومحطة "أك كويو" النووية.
وعلى الصعيد السياسي، تم قطع الاتصالات العسكرية، وفرضت روسيا على الأتراك نظام تأشيرات الدخول، بينما امتنعت تركيا عن المعاملة بالمثل بما يتعلق بسفر المواطنين الروس. وفي تصريحات شديدة اللهجة، أعلن بوتين، في رسالته السنوية إلى الجمعية الفيدرالية الروسية في ديسمبر/ كانون الأول 2015، أن تركيا ستندم على إسقاط القاذفة الروسية، وأن الرد الروسي لن يقتصر على حظر استيراد الطماطم وبعض الإجراءات الاقتصادية. إلا أن اللهجة العدائية حيال تركيا بدأت بالتراجع في العام 2016، وبدأ تطبيع تدريجي للعلاقات الاقتصادية، خصوصاً بعد قرار روسيا، في مايو/ أيار الماضي، إعفاء مجموعة إضافية من شركات البناء التركية من حظر توظيف الأتراك. وأسفر اعتذار الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، نهاية يونيو/ حزيران الماضي، عن اتفاق البلدين على التطبيع الكامل للعلاقات.
ويرى الباحث في الشؤون التركية في معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية، آمور غادجييف، أن القيادة التركية استخلصت مجموعة من الدروس من الأزمة في العلاقات مع روسيا، وفي مقدمها ما اعتبره "منع تسلل ممثلي المصالح الغربية إلى جهات الدولة". ويقول غادجييف، لـ"العربي الجديد": "كان العسكريون الأتراك مستعدين لجر بلادهم إلى مغامرة تلبية لرغبة اللاعبين الخارجيين، وبشكل أساسي الولايات المتحدة"، مضيفاً أن "الدرس الثاني هو الخسائر الاقتصادية، إذ لم يكن للاقتصاد التركي أن يتحمل موسماً آخر من دون سياح روس وعلاقات اقتصادية مع روسيا، وما كان لتركيا أن تحقق طموحاتها في أن تصبح مركزاً إقليمياً لعبور الغاز من دون مشروع السيل التركي مع روسيا". ويتابع: "أدركت تركيا أن آلية التعاون في العلاقات مع روسيا يجب أن تكون شاملة ومتبادلة المنفعة، وليست منفصلة إلى شقين، سياسي واقتصادي".
وبعد أسابيع على اعتذار أردوغان، شهدت تركيا محاولة انقلاب فاشلة، سرّعت من وتيرة استعادة العلاقات بين روسيا وتركيا، في ظل إقدام القيادة التركية على إجراءات حازمة واعتقالات لم يرحب الغرب بها. وعقد بوتين وأردوغان ثلاثة لقاءات منذ ذلك الحين، أسفر آخرها، في إسطنبول، عن التوقيع على الاتفاقية الحكومية لبناء خط أنابيب الغاز "السيل التركي"، علماً أن أنقرة هي ثاني أكبر مشتر للغاز الروسي بعد ألمانيا. وبدأت الفواكه التركية بالعودة إلى الموائد الروسية، وخلال شهر فقط على استئناف رحلات الطيران العارض (تشارتر)، تمكنت تركيا من العودة كالوجهة الأولى للسياحة الخارجية الروسية في موسم الخريف، لتزاحم تونس واليونان. وتتمثل المفارقة الرمزية الأكبر في أنه بعد حادثة الطائرة الروسية، نشرت روسيا منظومة صواريخ "إس-400" للدفاع الجوي، التي تعتبر الأحدث في العالم، في قاعدة حميميم في اللاذقية. أما الآن، فقد تقرر أن تبحث اللجنة الروسية التركية الحكومية المشتركة في اجتماعها المقبل مسألة توريد منظومات من هذا النوع إلى تركيا، وفق ما أكده رئيس الهيئة الفيدرالية الروسية للتعاون العسكري والتقني، ألكسندر فومين، قبل أيام.