عامُ الرمادةِ والثلاثون العِجاف

عامُ الرمادةِ والثلاثون العِجاف

09 مايو 2019
+ الخط -
ثلاثون عاماً قضاها السودانيون، وهم يترقبون سحائب الرخاء والرفاهية لتمطر عليهم ويطول الانتظار، ولا يزال البشير يبشرهم بالمطر فينامون على أمل، وغداً تطالعهم بوارق خلبٌ ورعدٌ كذوبٌ، وما أطول الليالي الحوالك للمترقبين، وفي كل يوم يطل عليهم بشيرهم فيشدّد عليهم: إني لكم مخلص وهل عهدتم عليّ من كذب؟ فيكذبون أعينهم ويعلقون آمالهم بالسحب عصِيَّة الدمع شيمتها الكذب.
وتمر السبع العجاف بالصبر الجميل ومشقة العيش، فلا عام فيه يغاث الناس ولا يعصرون، ثم تأتي السبع السِّمان فيستبشر السودانيون بنواضر الأيام، ولكن يستأثر عِلية القوم بالفَي والخراج ويكتنزون من والذهب والفضة حتى تئن خزائنهم فيعيثون في الأرض فساداً ويسومون شعبهم سوء العذاب، فتتعاقب عليه العجاف تلو العجاف، وما زالت البلاد تفتقر ليوسفها الحفيظ العليم الأمين الذي يدبر شؤونها ويُحكِم إدارتها ويضع استراتيجيات خُططها بعيدة المدى، وطال أمد الإصلاح وفي الساسة من مات منه الضمير فأنساه النعيم ويلات غضبة الشعب الكريم.
في غمرة هذه الخطوب يعود الربيع الطلق ببلاد العرب فيختال ضاحكاً على عروش الطغاة، فتهزها أعاصير التغيير وتثور الشعوب التواقة للحرية فتصُم آذان الحُكام وتؤرق مضاجعهم وتقتلع عروشاً نسج عليها عنكبوت التسلط والاستبداد ردحاً من الزمن. ولكن السودان لا يعرف الربيع، صيفٌ حارق وشتاءٌ وخريف، ولعل هذا الصيف القاسي، هو الذي جعل إنسان هذا البلد صبوراً حد الجمال، غضوباً حد النِّزال.
ويأتي عام الرمادة السياسية وليست للرئاسة من كَياسة فيُضَيَّق على الناس في قوتهم وأساسيات حياتهم فلا يستطيعونها إلا بشق الأنفس في حين أن القائمين على الأمر في رغدٍ ودعةٍ وسعةٍ يطلون من أبراجهم فيمتنون على الرعية بالأمن والسلام وزخم الكلام، وسرعان ما يفور غضب الكرام فتضج الشوارع بالهتاف الصاخب وتخرج حتى النساء الكواعب، ولكن يد الباطشين تلاحقهم فيسقط الشهيد إثر الشهيد ويزداد الضرب بيد من حديد على شعب أعزل أعلنها ملء الحناجر: "سلمية.. سلمية". وتمتد رحلة الثورة من الشتاء إلى الصيف رغم الفجيعة والضنك والتعب حتى يقول أحد الشهداء: "لقد تعبنا يا صديقي لكن لا يمكننا الاستلقاء أثناء المعركة"، فتتجدد الطاقات الكامنة وتقذف هذه الكلمات حمم الدخان في قلوب الثائرين فتقرِّب لأعينهم الأمل المنشود.
وبحِنكة وتروٍ ونفَسٍ طويل يدير الشعب قضيته الوطنية، ولابد للقيد أن ينكسر، وتزداد آلة القمع حِدةً وفتكاً وملاحقة، ولكن العزم الشديد لا توهنه يد الظلم الآثمة فإرادةُ الشعب قاصمة.
مع هذا الغليان الشعبي والجماهيري لم يكن أمام الجيش السوداني إلا الانحياز للجموع الغفيرة بعد اعتصام أمام قيادته، ألهب فيهم روح الثورة وأعاد ذكريات ثورتي 1964 و1985 اللتين أطاحتا بالرئيسين، عبود والنميري. وبهذا يكون السودان معلم الشعوب الثائرة ضد الظلم والطغيان والاستبداد والفساد في مقدمة الدول العربية والأفريقية التي عرفت شعوبها خيار الثورة والتضحية في سبيل الحياة الكريمة.
باقتلاع نظام الإنقاذ ذي الإيديولوجية الإخوانية المتجددة وفق مفاهيم زعيمه الترابي رغم الخلافات بينه وبين تلامذته الذين انقلبوا عليه وانفردوا بالسلطة، يكون السودانيون قد ودعوا أطول حقبة سياسية تربعت على سُدة الحكم وأحكمت قبضتها على كل مفاصل الدولة. كثيراً ما وعدوا الشعب ببناء دولة السودان العظمى، ولكنهم آثروا مصلحة الحزب على الوطن، وسعوا لمصلحتهم الذاتية على حساب العامة فلا حزباً أبقوا ولا دولة أقاموا، ومن التعنت والتسلط ما قتل.
لقد قدَّم السودانيون دروساً بليغة في التكاتف والتعاضد والوحدة ونبذ الفرقة والشتات، فحافظوا على سلمية ثورتهم وهم الآن يقطفون ثمارها، وأصبحوا مثالاً يحتذى به، حتى أن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، دعا أصحاب السترات الصفراء للتأثر بالثوار السودانيين في سلميتهم. ولا يخفى على أحد التنوع الثقافي والبيئي لدى السودانيين، وما زادهم التنوع الثقافي إلا جمالاً وتناغماً وهم يضربون أروع الأمثلة في لُحمة الشعب مع قواته المسلحة، مستمدين كل ذلك من قيم التسامح الديني والتعايش السلمي والنسيج الاجتماعي الممتزج حباً وإلفة، والذي يستمد روحه من التربية الدينية الصوفية التي سادت المجتمع السوداني، هذا الموروث الديني السمح الذي جعل السلم الاجتماعي سمة يُعرف بها السودانيون في كل مكان.
ويبقى التحدي الأكبر أمام كل السودانيين في بناء دولة القانون والمؤسسات بعيداً عن الحزبية والطائفية بالتسامي عن المصالح الذاتية من أجل وطن طوى حقبة الماضي مستشرفاً المستقبل بخُطىً واثقة مستبصرة.
6397A895-D6E7-4F34-AF1B-0ED59CC60F53
6397A895-D6E7-4F34-AF1B-0ED59CC60F53
مصعب محجوب الماجدي (السودان)
مصعب محجوب الماجدي (السودان)