عاد أيلول

عاد أيلول

22 سبتمبر 2018
+ الخط -
عندما نكتب عن أي حدث كبير، يجب أن نعطيه حقه؛ وخير أمر لذلك هو الابتعاد عن هالته المبهرة وأضوائه اللامعة، لكي نستطيع أن نراه في صورته الحقيقة بعيدا عن أي "تزويق" قد يخلّ من موضوعية الحكم عليه.
ولعل البعد الزمني أهم هذه الشروط، لذا فالكتابة عن ثورة 26 سبتمبر عام 1962 لن تكون موضوعية بدرجة عالية إبّان اشتعال النار على جغرافية اليمن آنذاك، لأن الوهج السبتمبري كان سيغطي على الموضوعية التي ننشدها من كاتب التاريخ المحايد.
في حقيقة الأمر، لا يوجد مؤرخ محايد، لكن يوجد مؤرخٌ يجاهد أن يكون محايدا، لأن كتب التاريخ تشبه الظلال التي تنعكس على بوابة كهف أفلاطون. فكما لا تمثل الظلال الواقع، فلا يشبه ما هو مكتوبٌ في كتب التاريخ حقيقة ما حدث، ولا ننسى أن التاريخ يكتبه المنتصر، فماذا سيكتب؟
اليوم، ونحن في اليمن على بعد 56 عاما منذ ثورة 26 سبتمبر 1962، وما مرت به اليمن من أحداث جسام خلال هذه العقود المنصرمة، وخصوصا هذا العقد الذي نحن في خواتيمه، فهل ابتعدنا عن وهج ذلك اليوم البعيد، حتى نستطيع الكتابة عنه بتجرّد؟ الإجابة واضحة: نعم
أعرف أن كتبا كثيرة كُتبت ووثقت للحدث، لكن تغلبها الرواية الشخصية من أناسٍ شاركوا في الحدث، أو كانوا قريبين منه، ولا أظن أن ذلك يكفي لتكون مرجعا توثيقيا للتاريخ، بل يكون التدوين المؤسسي بالمنهج العلمي في توثيق التاريخ هو المعوّل عليه، بعيدا عن الانطباعات الشخصية لفلان أو علان، هذا إذا أردنا تاريخا نستفيد منه لا مجرد سرد لذكريات تقادم بها الزمن مثل حكايات أبي زيد الهلالي.
كل ثورة لا تأتي من فراغ، بل تتراكم معطيات تدفع المجتمع لينفجر بتلك الثورة، والثورة السبتمبرية سبقتها إرهاصاتٌ مثلت تراكمات لها. بدأت هذه الإرهاصات بحركة ا سميت بثورة الدستور وبعدها حركة 1955، ومن ثم محاولة اغتيال الإمام أحمد في مستشفى الحديدة سنة 1961 حتى انفجار الثورة في 26 سبتمبر 1962.
لكن لتوثيق التاريخ، هناك انتفاضات سبقت تلك الحركات وعاصرتها، لم تلقَ من تسليط الضوء عليها بشكل مكثف؛ أولها انتفاضة المقاطرة عام 1922م وبعدها حروب الزرانيق مع الأئمة، ابتداء من عام 1926 حتى عام 1929، وبعدها مقتل الإمام يحيى حميد الدين عام 1948، ولا ننسى انتفاضة حاشد 1958، وأخيراً التيار الطلابي الذي خرج بمظاهرة عارمة في أواخر مايو عام 1962، والأستاذ عبد الله البردوني خير من سلّط الضوء على كل تلك الإرهاصات في كتابه، اليمن الجمهوري.
والذي يظن أن الثورة مجرّد تغيير السلطة الحاكمة، والمجيء بسلطة أخرى، واهم، لأن الثورة ليست هدم نظام سياسي قائم، بل هدم نظام اجتماعي، وبناء نظام جديد. والثورة، بهذا المقتضى، حركة تراكمية إلى الأمام، فلا تكون ثورة إلا حين تخطو بالمجتمع نحو نظام سياسي واجتماعي واقتصادي أكثر تقدّماً من سابقه، وإلا كانت ارتكاساً إلى وراء وثورة مضادّة، فهل صنعت ثورة 26 سبتمبر ذلك؟ أقول صنعت وما صنعت؟
صنعت: نعم، لكن البناء لم يكتمل، وشابته الأخطاء التي تراكمت عبر العقود، وأفضت إلى ما نحن نعيشه اليوم. وهذا قدر كل منْ يعيش بذاكرة مثقوبة، إذ يقول الفيلسوف الإسباني جورج سانتايانا: "أولئك الذين لا يستطيعون تذكّر الماضي، يُحكم عليهم بتكراره".
لقد أردنا التغيير، لكننا نحن لم نتغير، فيصدق قول كارل ماركس: "الثورات أثبتت أنها تغيّر كل شيء إلا الإنسان".
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري