طيور طاغور التائهة

طيور طاغور التائهة

15 يناير 2015
+ الخط -

في تقديمه لمجموعة من قصائد الشاعر الهندي رابندراناث طاغور (1861 - 1941) إلى قُرّاء الإنجليزية، يقول الشاعر وليم ب. ييتس (1865 - 1939) إنه حمل معه مخطوطة القصائد المترجمة لعدة أيام، ولم تفارقه سواء كان في قطار أو حافلة أو مطعم، وكثيراً ما أضطر إلى طي صفحاتها وإخفائها حتى لا يلاحظ بعض الغرباء مدى تأثره وهو يقرأها.

قصائد طاغور، كما أخبره بعض أصدقائه الهنود، الغنائية في أصلها قبل الترجمة، ممتلئة بإيقاعات مرهفة وتلوينات غير قابلة للترجمة. ويضيف ييتس إنها من أعمال ثقافة راقية، ومع ذلك تظهر كما لو أنها تنمو من تربة واحدة تشبه نمو العشب وشجر الغابات.

كان أكثر ما أثار هذا الشاعر وهو يعكف على قراءة شعر نابع من تراث ينظر إلى الدين والشعر كشيء واحد كما يقول، إنه نتاج تراث متواصل منذ قرون استطاع أن يجمع في مسيرته بين مجازات ذوي الثقافة الرفيعة ومجازات ذوي الثقافة الشعبية، بين ثقافة وعواطف متعلمين وثقافة وعواطف غير متعلمين، ثم يعود بها إلى الجمهور العام مصقولة بلغة مثقفة تصل إلى الجميع. ولعل ما قاله أحد الهنود وهو يتحدث عن مكانة طاغور بين مواطنيه هو أصفى تمثيل لما يعنيه هذا.

قال هذا الهندي: "لدينا شعراء آخرون ولكن لا أحد يعادل طاغور، نحن نسمي هذا العصر بعصر رابندراناث، ولا يوجد شاعر شهير في الغرب يمتلك الشهرة ذاتها التي لشاعرنا في وطنه. إنه مبدع في الموسيقى كما في الشعر، وتتردد أغانيه على مساحة شاسعة تمتد من غرب الهند وصولا إلى بورما شرقاً، وحيثما وجد ناطقون باللغة البنغالية. إنه الأول بين القديسين لدينا الذي لم يرفض الحياة بل تحدث عنها وامتدحها، وذلك هو سبب حبنا له".

في مجموعة "طيور تائهة" التي لم يعرفها مترجمو أشعاره إلى العربية كما يبدو، يُقدِّم الشاعر وجهاً مختلفاً له، هو ليس ما عهدناه في مجموعة "جيتنجالي" أو "جني الثمار" أو "البستاني"، أو ما مرّ بنا في مسرحياته ورواياته، بل هو أقرب إلى قصيدة الهايكو اليابانية، قصيدة مدة النفس الواحد، أو قصيدة الشعر التصويري الذي تجمع فيه الصورة بين الفكرة والعاطفة بلمحة واحدة لا تحتمل الشرح والتفسير.

وأعتقد، بدلالة إهداء طاغور قصائد مجموعته هذه إلى ت. هارا الياباني من يوكوهاما، أنه لم يكن بعيداً عن التفكير بقصائد الهايكو، جوهرة الشعر الياباني التي افتتنت بها شتى الثقافات في عالمنا المعاصر، وكانت موضع تأمل وتفكير ومحاكاة رواد حركة تجديد الشعر الإنكليزي المسماة "حركة التصويريين" وأبرز شعرائها آمي لويل وإزرا باوند وإليوت. صحيح أننا لن نجد في هذه القصائد المختارة ما ألزم به شاعر الهايكو نفسه، أعني قصيدة السطور الثلاثة ذات السبعة عشر مقطعاً، إلا أن الترجمة إلى الإنجليزية، كما يبدو لي، ربما ضيعت الكثير من السمات التي لا أشك أن شاعراً يصنع الأغاني لا يمكن أن يغفلها.

في هذه القصائد، ذات النزعة الفلسفية/الدينية، لا نتعرف فقط إلى شاعر يحب الطبيعة ويقضي ساعات في حديقته غارقاً في تأملاته، بل ويمضي إلى مدى أبعد فيقيم مدرسة في الهواء الطلق يتلقى فيها التلاميذ دروسهم وهم أحرار في اختيار مكان جلوسهم، على العشب أو بين أغصان الشجر، بل نتعرف أيضاً إلى شاعر من أتباع المذهب التوحيدي الإصلاحي في الهندوسية، أعني المذهب البهاكتي، وليد القرن الثاني عشر الميلادي، الذي اعتنقته عقول رفيعة في الهند من أمثال المهاتما غاندي.

وما يبدو غريباً في عين شاعر مثل ييتس حين حيره تبجيل الهنود البالغ لمن يعتبرونه قديساً، يمكن فهمه ورؤيته في سياقه الطبيعي حين نطلع على أعمال عدد من شعراء هذا المذهب التوحيدي بلغة "الكانادا"، وخاصة "باسافانا" و"داسيمايا" و"ألاما برابهو" والشاعرة "ماهاديفيآكا" وبقية من تابعهم حتى الزمن الراهن. وينسب لشعراء هذه الحركة أنهم زرعوا بشعرهم الغنائي بذور أكثر أشكال الموسيقى الكلاسيكية في الهند ثراءً، تلك المسماة "موسيقى كارناتك" في جنوبي الهند.

إن صورة طاغور لا يمكن فهمها ولا فهم المكانة التي تحظى بها قصائده الغنائية من دون معرفة مصدر ما رأى فيه من تحدث عنه مزجاً بين الشعر والدين، أعني هذا المذهب التوحيدي/الشاعري الذي اعتنق مبادئ الدعوة إلى المحبة والسلام وعبادة الإله الواحد، وسخر من أوهام البشر سواء تمثلت بتقديس نظام الطبقات أو بعبادة الحجارة والمال وينابيع المياه والطغاة.


مختارات من قصائد "طيور تائهة"

دلالات

المساهمون