طيور أفغانية في إيران: حياة مُعلّقة في ظلال "البيت"

طيور أفغانية في إيران: حياة مُعلّقة في ظلال "البيت"

20 مايو 2020
أفسانة سالاري: الكتابة تُساعد على إدراك ما أريد (يوتيوب)
+ الخط -
"يُسمّون الطيورَ مهاجرةً، أما نحن فندعى غرباء". يعلّق الأب مبتسماً وهو يشاهد حلقة تلفزيونية على شاشة إيرانية عن هجرة الطيور. العائلة الأفغانية المقيمة في طهران محور "البيت" للإيرانية أفسانة سالاري، المشارك في مسابقة الفيلم الطويل في الدورة 51 (24 إبريل/ نيسان ـ 2 مايو/ أيار 2020) للمهرجان الوثائقي "رؤى الواقع" (سويسرا).
في إيران، هناك كثيرون من هؤلاء "الغرباء". مليون ونصف مليون أفغاني هجروا وطنهم بعد الاحتلال السوفييتي وبدء المعارك في ثمانينيات القرن الـ20، وتوجّهوا إلى الجوار، حيث "وحدة اللغة والدين والثقافة وتقارب العادات". يبدو أن الواقع لم يساير الخيال كما يجب. في وثائقيّها هذا، تناولت سالاري قضيتين حسّاستين في إيران، وفي كل بلدٍ: مهاجرو الحروب والانتماء.

في سرد يرتكز على الحساسيتين الشعريتين الإيرانية والأفغانية، قولاً وقالباً، رصدت المخرجة حياة عائلة هاجرت إلى إيران منذ نحو 30 عاماً، كانت مؤلّفة من أبٍ وأم، واليوم تضمّ 15 فرداً من 3 أجيال، يسكنون بيتاً من 3 طوابق. يعمل الأب وابناه بجهد في محل خياطة خاص بهم. العائلة كبيرة، والتعلّم ومجالات العمل المخصّصة بالمهجّرين واللاجئين تحكمها قوانين صارمة. الابن الشاب يُدعى تَقِي، كاتب وجامعي مهتمّ بنشر ثقافة بلده بين أفغان إيران. يصبو إلى حياةٍ غير هذه. مبتسمٌ دائماً، لا يشتكي من إيران، لكنّه لا يرغب في إرث أبيه، ولا في العيش بصفة لاجئ. يريد أن يكون في بلده، والتعرّف على وطنٍ لا يعرفه. في إيران، لا يمكنه العمل بشهادته الجامعية. الحِرفيون فقط يحقّ لهم العمل.

قصّة غير تقليدية تماماً، لا في حبكتها ولا في لغتها البصرية. زوايا تصويرية مختارة بعناية في البيت والمحيط، تبرز حميمية مكان متواضع، وسعادة عائلة وقناعتها. لكنّ النظرة التي تحمل رضىً يشوبها خوف وقلق من طرد مفاجئ، وعبء حمل ثقيل يعبر من جيل إلى جيل. هناك بعض عتب، تارة مبطّن: "للهجرة مساوئ في إيران، لكنْ لها محاسن أيضاً"؛ وتارة أخرى صريح: "الإيرانية لن تتزوّج أفغانياً"، "كنّا نظنّ أن الجمهورية الإسلامية ونحن لدينا اللغة والثقافة والدين نفسه، وأنّ الأمور ستكون أسهل. الآن، بعد 30 عاماً، تُنكر الدولة علينا حقوقنا. هنا ليس وطننا".

لا حقّ في المواطنة وفي تملّك الأرض، ولا حرية تنقّل ودراسة. لا يمكنهم تغيير وضعهم، وإنْ تكن هذه الأرض الوحيدة التي عرفوها، فسيفكّرون بغيرها: "إذا لم يكن هناك هواء في أرض المرء للتنفّس، فليُغادرْ. هذا هو الفرق بين رجل وشجرة"، يكتب تقي في مذكّراته.
مَشاهد من الحياة اليومية للعائلة في المنزل والعمل. أمسياتها ونقاشاتها من دون ثرثرة كثيرة. يقظة الصغار تتبدّى عبر طفلة تكتب فروضها المدرسية وهي تشير إلى "أنفها الأفغاني المختلف"، كما قيل لها في المدرسة. الاستعانة باللغة البصرية للتعبير عن يوميات. صورة لباحة المنزل. فتاة واقفة على العتبة. البيت وقد فرغ فجأة بمجرّد غياب فرد منه. غادر تقي مؤقّتاً إلى أفغانستان لضرورة البحث الجامعي. أراد هكذا رؤية الحلم على أرض الواقع، ليلمس للمرّة الأولى في حياته شعور الحرية كما يقول: "الأرض لي. النهر والصخور والسماء. أستطيع النوم بسلام فوق هذه الأعشاب تحت الشمس". السلام في أفغانستان؟ نجا بأعجوبة من تفجير سيارة مفخخة في زيارته الأولى، لكنّ هذا لم يمنعه من التفكير بالعودة إلى أفغانستان لاحقاً. ربما تكون تلك المرّة عودة نهائية.


"الظلال"، بحسب العنوان الإنكليزي، وثائقيّ بأسلوبٍ روائي. تعبير عن شباب اليوم وأسئلتهم حول الانتماء والهوية واللجوء. حقّقته المخرجة والمنتجة أفسانة سالاري بتواجدها في فضاء العائلة، متابعة حياتها اليومية. هم أيضاً ساهموا معها، بطريقتهم، في سيرورة الفيلم، كما تقول سالاري في حوار خاص بـ"العربي الجديد". كانت تعلم عن مشاريعهم، وعمّا سيحصل في الأيام التالية. لذلك، كانت تُعِدُّ نفسها وتحضّر المَشَاهد. كتبتْ كثيراً أيضاً، فالكتابة "تساعد على إدراك نوع السرد الذي نريد، والمنحى الذي يجب التركيز عليه". مُنتجة فيلمها هذا وغيره أيضاً، تعتمد سالاري تصوير مَشاهد عدّة، ليكون بحوزتها ما يُمكّنها من اختيار اللازم لاحقاً.

"البيت" (خانه) لم يعرض في إيران بعد، فعرضه الأول حاصلٌ في المهرجان السويسري. تأمل سالاري بعرضه هناك في مهرجانات هذا العام، أو العام المقبل، بحسب تطوّر وباء "كورونا". تظنّ أنّ إمكانية عرضه في بلدها متوفّرة، فهو "يلمس مسألة الهجرة بأسلوب حميمي، من خلال رسم لوحة لعائلة. بدأ الإيرانيون يتنبّهون إلى قضايا ترصد أحوال الأفغان في إيران. هناك أفلام قليلة جداً تتناولها". لسالاري المخرجة والمنتجة فيلمٌ آخر بعنوان "وتريات ممنوعة" (2019)، عن موسيقي "روك" أفغاني في إيران، عرض في بلدها وخارجه.

لكنْ، لمَ هذا الموضوع بالذات؟ "أعتقد أنّ اهتمامي بتحقيق أفلام عن الأفغان متأتٍ من إقامتي في فرنسا 8 أعوام، حيث درست. هناك، لمست مباشرة الهجرة ومشاعر البُعد والحنين".

المساهمون