طنجة عروس الشمال

طنجة عروس الشمال

05 نوفمبر 2019
+ الخط -
حططت رحالي بها منذ قرابة العامين طالبة علم، وفي نفس الآن، باحثة عن عبق التاريخ الذي ينبع منها، من مدينتها القديمة وأزقتها التي تعج بقصص تاريخية غير مرئية تكافح النسيان والزمن، من أصوات الأطفال المحتفين بظفرهم في مباراة كرة قدم، من محلات الصناعة التقليدية والحرف اليدوية ودكاكين العطور والبخور، ناهيك عن النسيم العليل الذي يجرني في كل مرة إلى شواطئها الفخمة الجميلة، التي ورغم الجو البارد أحيانا، تتوافد جماهير إليها من كل عرق وجنس للاستمتاع بمشهد غروب الشمس الرومانسي بعد يوم عليل من التعب.

مغارة هرقل
لعل أكثر الأماكن التي خطفت أنفاسي هي مغارة هرقل. منذ الصغر، صور وحكايات، قصص وروايات استمعت إليها عن هذه المعلمة الطبيعية التاريخية، وما ظننت ولا تخيلت نفسي لها يوما زائرة، ولكنني ها هنا زائرة لها حقيقة.

منذ الوهلة الأولى التي وطأت فيها قدماي صخور المغارة، أحسست بهواء نقي يقتحم أضلع صدري ويداعب حواسي، خرير مياه يتدفق إلى مسامعي، وراحة لم أعهد لها مثيلا راحت ترافقني وأنا أنتقل من زاوية إلى أخرى من المغارة.


مكثت ساعات طوال أتأمل ذلك الحجر المتراس على هيئة إنسان، فأسائل نفسي وأتساءل: هل هو هرقل حقا؟ من احتضنته جدران هذه المغارة يا ترى؟ من عساه سكنها يا ترى؟ كيف كانت الحياة في طنجيس قديما يا ترى؟.. انقطعت حبال تواصلي مع العالم الحقيقي وبقيت عالقة ومعلقة بخيوط مخيلتي التي لم تتوقف عن التخيل ولا عقلي عن التساؤل.

أمضيت يوما كاملا تقريبا في حضن مغارة هرقل، أتأمل صخرا بصخر، زاوية بزاوية، أتأمل الأوجه المستمتعة بأجواء المكان، ورغم حماس نفسي المتشوقة للاكتشاف، ختمت زيارتي هذه بمشاهدة غروب الشمس وأنا جالسة على صخور شاطئ أشقار. غادرت المكان، لكن في قرارة نفسي وعد بالعودة مجددا إليها لاكتشاف المزيد والمزيد عنها ومنها. حقيقة، لم أزر أماكن كثيرة في طنجة، إلا أنني أغتنم الفرص كلما سنحت لي، رغم الظروف التي أتخذها أحيانا أعذارا.

المفوضية الأميركية
عجيبة هي هذه المدينة التي جمعت بين الأبيض والأسود، بين الغربي والشرقي، بين المسلم والمسيحي واليهودي، بين المعاصر والأصيل وبين الحديث والتقليدي. هكذا كانت محطتي الثانية التي، ولشدة تعلقي بها، ما استطعت فراقها، وبالصدفة علمت بوجودها، حيث احتضنت مؤتمرا عن التراث في شمال المملكة. نعم، محطتي الثانية كانت المفوضية الأميركية. مكان حتى الكلمات تعجز عن وصفه. هي في الواقع المعلمة التاريخية الوحيدة في ملكية الولايات المتحدة الأميركية والمتواجدة خارج ترابها.

دخلت صرحا تاريخيا بحق، يشهد على أولى بدايات العلاقات الدبلوماسية بين المغرب والولايات المتحدة لعقود من الزمن، رغم أنها الآن لم يعد لها ذاك الدور التاريخي الذي تمتعت به في السابق، حولت إلى ما هو أكثر روعة كرمز للسلام؛ إلى متحف تاريخي ضخم يجمع بين الأسلوب الغربي والمغربي في آن واحد من المعمار الخارجي الأندلسي، وحتى الموقع الذي توجد فيه، إذ تقع في لب المدينة القديمة على بعد أمتار من قليلة من المقبرة اليهودية بزنقة البرتغال، فلكل شارع في طنجة اسم يحمل قصة وتاريخ بلد وما هي إلا شهادة أخرى على مدى قوة هذه المدينة على ربط أواصر أبناء آدم من شتى أصقاع الدنيا.

في زقاق ضيق بالكاد يعبر منه شخصان كانت، لدرجة أنني لم أتصور أن مكانا بهذه الفخامة قد يكون مختبئا وراء أسوار زنقة أميركا. خطوت خطواتي الأولى وكلي حماس لأكتشف، وحقا فعلت.. مررت بقاعات بزخرفات أندلسية وأسلوب تأثيث غربي أشبه بذاك الموجود بالبيت الأبيض، حيث علقت صور وبورتريهات لشخصيات اتخذت المفوضية مقرا لها وطنجة مسكنا لها..

دبلوماسيون وشخصيات معروفة، قناصلة وأناس عقدوا قرانهم في بهو المفوضية، قاعة طعام فخمة اكتست جدرانها حليا من الديكورات والزخرفات، ومطبخ يشبه ذاك الذي في داونتن آبي، مكتبة خاصة ربما تعود إلى أول ممثل دبلوماسي أميركي، تبدو أوراق كتبها متآكلة الأطراف تستسلم هي الأخرى للفناء والزمن.

زيارت متتالية قمت بها إلى المفوضية، لكن الأولى لم ولن يكون لها مثيل؛ إحساس التجربة الأولى وطعمها النادر والاستثنائي وأنت تدخل مكانا شهدت جدرانه على أسرار ساكنيها وتعهدت بحفظها، فماذا لو كانت للجدران ألسنة، كما لها آذان حسبما يقال؟ يا ترى ما عساها تخبرنا به؟..

ها هي مخيلتي تطلق العنان لنفسها ولكني كبحت جماحها هذه المرة.. إلى لقاء آخر.

دلالات

CF86EF5A-21B4-4C0B-99D2-419E69E3D260
يسرى العيادي

مدونة ومترجمة حاصلة على شهادة البكالوريوس في الأدب الإنكليزي والماجستير في الترجمة.