طلقة قناص في عيد ميلاده

طلقة قناص في عيد ميلاده

17 يوليو 2018
+ الخط -
"هنا كل شيء مختلف.. نحن نخرج بمظاهراتنا ضد النظام كل يوم، لا ننتظر يوم الجمعة.. ولا ننتظر حادثا يؤجج ما بداخلنا، ففي حينا توجد من عشرات السنين آلاف الأسباب لثورة.. وآلاف من قطرات العرق التي تنزف كل يوم لتبلل لقمة الخبز المر الذي بالكاد يُشبع أجوافنا، لتجوع أرواحنا أكثر". أحد سكان حي بابا عمرو - (نوفمبر/ تشرين الثاني 2011).

هجوم لعصابات الأسد على جامعة القلمون بريف دمشق، حصار شبيحة الأسد لكلية الآداب في الرقة، مظاهرات في إبطع - حوران، وفي حلب - حيان، وفي حمص حي الإنشاءات، وتحت اسم أربعاء التآخي بهتافاته التي عرّشت على الهواء في كل مكان (واحد واحد.. الشعب السوري واحد) في القامشلي ودير الزور والبوكمال وريف دمشق وحمص.. دعماً للشهيد (مشعل تمّو)، الناشط السوري الكردي المعارض، الذي اغتيل في السابع من شهر نوفمبر/ شرين الثاني - ولشهداء تلبيسة ودير الزور وبابا عمرو..

هذا ما ستجده لو بحثت عن أحداث هذا اليوم في سورية الثورة، مظاهراتٌ ووقفاتٌ احتجاجية من جهة، تشبيح وقتل.. حصار لجامعات من قبل الأسد وجيشه ورجاله من جهة أخرى، وستجد ما يقارب المائة وثمانين شهيدا مدنيا، وعسكريين قتلا لرفضهما إطلاق النار على المدنيين، كلهم قضوا خلال هذا الأسبوع، أو على الأقل، هذا ما استطاعت الهيئات أن توثّقه منهم، ولا تسأل عن عدد المعتقلين والمفقودين والجرحى، لأنك ستصطدم بأرقام قد تودي بك إلى الجنون.


لكنه وبالتأكيد سيتعثر قلبك باسم شهيدٍ في حي بابا عمرو في مدينة حمص، هذا الحي البسيط الذي سمي نسبة للصحابي الجليل عمر بن معدي يكرب أو الصحابي عمرو بن أمية الضمري الكناني في رواية أخرى، وسمي بهذا الاسم أيضا لوجود بابين فيه من أبواب المدينة وهذا ما يميزه عن باقي أحياء حمص القديمة.

المعتصم بالله برغوث.. هذا هو اسمه، استشهد في السادس عشر من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، يوم ميلاده العاشر، كانت عيناه الملونتان تشعان بالبراءة، وكانت أمه الطيبة (أم عامر) التي باتت في عقدها الرابع تمنعه من الخروج للعب خارج البيت، فالوضع ليس بآمن، كما أن شقيقه الأصغر سيخرج مثله إن سمحت له هو بالخروج، فكان منفذه الوحيد في هذه الأيام نافذة غرفة الجلوس المطلة على بساتين جوبر (الحي المجاور لبابا عمرو)، لم يكن الحصار قد بدأ على هذا الحي بعد، رغم حالة التشديد القصوى التي كان الحي يقبع تحتها، فالمدرعات والدبابات والقناصات نُشرت في كل زاوية وعلى كل مرتفع كما لو أنها مسامير ثبتت ظاهرة للعين في جذعٍ عتيق.. بحيث لم يعد بإمكانك لمسه.

كان يشاهد المظاهرات من بعيد، والدبابة المتمركزة أسفل الجسر في أول الحي، وخزان المياه التابع لحي جوبر، يتابع المتجمهرين وفي بعض الأحيان يصفق سعيداً لهتافاتهم غير المفهومة بالنسبة إليه.

حاول والده (أبو عامر) الذي كان في عقده الخامس، أن يشرح له ماهية هذه المظاهرات، فلم يستوعب ببراءته من هو الأسد!.. ولماذا يقتل الناس! ولماذا يهتفون ضده! فقرر عقله بمساعدة أخيه الأوسط أن يرجح الأمر على أنه تجمعات لمحبي نادي الكرامة (نادي كرة القدم المحلي) الذي كان قد تعود أن الناس يهتفون ويفرحون أو يحزنون لأجله كما يفعل أشقاؤه الثلاثة الأكبر منه.

في يوم ميلاده هذا، كان والده في السوق يبتاع بعض الحاجيات للبيت بعدما أُغلقت دكاكين الحارة والحارات المجاورة. شقيقاه الأكبر عمراً اعتادا أن يعملا في المشفى الميداني للحي، كان أحدهما هناك فعلاً، لكن شقيقه الآخر وشقيقه الأوسط كانا اليوم في مظاهرةٍ مبكرة عن يوم الجمعة كما اعتادت بقية الأحياء، وبقي هو وأخوه الذي يصغره بعام واحد في غرفة المعيشة مع أمه التي كانت تحاول أن تُقنعه بالنزول عن المقعد المطل على النافذة، عبثاً في المرة الأولى، في حين استجاب شقيقة الأصغر وجلس على المقعد المجاور، وفي المحاولة استدار لينزل فعلاً، لكنه وقع على الأرض ملامساً وجهه لها، فهرعت إليه أم عامر ظناً منها أنه تعثر أثناء نزوله فوقع، لتفاجأ بأن رأسه مدمى، وأن ثقبا كبيراً كان على جبينه، بحجم العمر وكل ما يحمله من حزن وهم، لا قرار له ولا جواب، إلا ذلك السائل الأحمر الملتهب الذي كان يزحف على جبينه متثاقلاً كحميم بركان، عرفت بعدها أنه كان ثقباً أحدثته طلقة قناص يتمركز أعلى خزان مياه حي جوبر.

هاتَف الجيران أخاه في المشفى الميداني آملين أن يستطيعوا إسعافه، وعند وصوله مع أخويه الآخرين كان المعتصم في حِجر أمه ساكناً، يبلل رأسه خليطٌ من دمه ودموع أمه، فقرروا أخذه لمشفى خاص، لأن المشفى الميداني لا يستطيع بإمكانياته المتواضعة أن يسعف طلقةً في الرأس، وهنا بدأت معاناتهم مع المشافي الكبرى في المدينة فقد حُظر عليها استقبال إصابات الإطلاق الناري خوفاً من اتهام النظام لهم بدعم وتطبيب الإرهابيين، حتى أنهم وصلوا لمشفى الزعيم في حي المتنبي (الدبلان) الذي يبعد عنهم كل البعد والذي يعتبر من المشافي الأعلى سعراً في المدينة، ولكنهم فوجئوا بالحجج السابقة نفسها لبقية المستشفيات، لذا قرروا أن يتجهوا إلى حي الوعر، حيث إن (مشفى البر) هناك كان خارجا عن سيطرة النظام مادياً، رغم أنه يطبب جنوده في بعض الأحيان وهذا ما أسكت النظام عنه.

وعند وصولهم لمشفى البر في حي الوعر، استلمه المسعف فوراً، ولكنه بعد برهة قصيرة خرج لهم معلناً وفاته لحظة سقوطه على الأرض، فبقي في ثلاجة المشفى لليوم التالي، إذ إن الوقت يشير إلى ما يقارب الثامنة ليلاً ولم يعد بالإمكان القيام بمراسم التشييع والدفن في هذا المساء البارد من مساءات المدينة.

وفي صباح اليوم التالي جاءت لجنة الدفن التابعة للنظام الطاغي لتسجل أسماء القتلى الذين قضوا بسلاح (الإرهابيين، حسب زعمهم وبرمجتهم) ولتقول لأهل المعتصم إنهم سيأخذونه ليدفنوه - بمعرفتهم - بعد ساعتين، فما كان من والده إلا أن يهربه من المشفى ليضعه في ثلاجة لعائلة كريمة في حي بابا عمرو كانت قد خصصت ثلاجة لمثل هذه الحالات، لكن الحواجز التي كان النظام قد زرعها في كل مكان في الحي كالشوك في الحلق، منعت أهله من تشييعه في الحي خوفاً من قيام مظاهرةٍ كبيرة تؤجج القلوب أكثر، كما منعت أن يدفن هناك، فهرّبوا جثمانه الطاهر البريء مجدداً إلى حي الوعر، حيث قامت هناك زفة كبرى لعريس صغير شارك فيها أغلب رجال وشباب الوعر ومن استطاع المجيء من حي بابا عمرو، ولكنهم تعثروا مجدداً بالحواجر المحيطة بالحي، فمنعتهم من الذهاب لمقبرة المدينة الرسمية (مقبرة تل النصر) التي تقع خارج حدود حمص، فاضطروا أن يدفعوا لهم مبلغاً مالياً ليوافقوا على ذهاب ثلاثة أشخاص معه فقط إلى تلك المقبرة، فذهب والده وعمه الأكبر وشقيقه الأوسط.

كان يوم الدفن كيوم استشهاده، بارداً كئيباً لا شمس فيه ولا مطر، بردٌ وصمتُ لا تكسره إلا ضرباتٍ تحفر الأرض لتصنع حفرة صغيرة، حفرةً بحجم عشرة أعوامٍ ندية تتسع لجثمانه الصغير، في كل ضربةٍ على الأرض كان المعول يصنع شبيهها في فؤاد أبا عامر وهو ينظر إلى ذلك الظلام الذي سيستقر به ابنه بعيداً عن حضنه.

بكى أبا عامر ابنه المعتصم بعد الدفن، وحفرت دموع الحزن خدي زوجته الطيبة، التي ما زالت تبكيه إلى الآن، كيف لا! وهي تضطر أن تحضر طبقاً يحبه ولن يأكل منه! وهي لا تزال تغسل ثيابه ليلبسها شقيقه المتيم به! وهي لا تزال تراه على الشرفة ينظر مبتسماً!

قال أبو عامر: هي ثورة، يجب أن يُدفع فيها الغالي، فلا تحزنوا كثيرا، ما زال أمامنا الكثير، صمتت أم عامر لكن الدمع في عينيها صرخ كما لم يصرخ من قبل، وكظم إخوته الثلاثة الأكبر منه دموعهم أمام أمهم، أما الصغير ذو التسع سنوات، لم يكتفِ بذلك، فخبأ صوته عن الجميع، وخبأ نظراته عنهم، كان لا يتكلم إلا مع أخيه المعتصم في غرفة المعيشة، والأهل خارجها يسمعونه، يلاعبه دون ضحك، ويسأله أسئلة كأنه يكبره بكثير من الأعوام، عله يفهم لماذا هو يتكلم مع لا أحد؟ ولماذا هذا اللا أحد لا يرد عليه؟ ولماذا هو مستمر في سؤاله؟

بقي على هذه الحال طوال أربعة أشهر يخبئ صوته وضحكته ونظراته عن الجميع، دون أخيه المعتصم، الذي كان قد رآه يسقط بدمائه والثقب في رأسه على أرض غرفة المعيشة.

في عام 2014 ولد مجدداً المعتصم بالله، أخاً سادسا لأربعة خامسهم شهيد. هو الآن في الرابعة من عمره تقريبا، نسخة طبق الأصل عن سميّه الشهيد، بشعره الأشقر وعينيه الملونتين الحالمتين، مدلل من كل أشقائه وبالأخص آخرهم.. الذي لا يفارقه مكانا ومخاطبة.
E594284C-6860-435C-8F32-5DF10890CBB1
محمد وسيم عباس

مصور سوري... أعمل بمجال الإعلام المرئي في تركيا، وبصدد توثيق قصص أبرز شهداء الثورة السورية.

مدونات أخرى