طريق فرعي في أبو غريب

طريق فرعي في أبو غريب

15 نوفمبر 2016
(الصورة: العربي الجديد)
+ الخط -

منذ عدة أيام لم أخرج من البيت. صديقي الوحيد الذي أقصد يقطن الحي المجاور في مدينتنا، كان الطريق إليه طويلًا بعض الشيء، بسبب وجود ثكنة عسكرية على الطريق الفرعي الواصل إليه. غيرت ثيابي وقالت لي أمي إن الطريق الفرعي قد فتح وأستطيع المرور عبره، وكان خبرًا جميلًا لأني كنت أشعر بشيء من التعب.

في الطريق، كان الأسفلت يشرخ الشارع طوليًا بشكل عجيب، من أوله حتى آخره امتد الشرخ، وانتهى بكتلة كونكريتية وضعها الجيش سابقًا كتب عليها "طريق عسكري، لا يسمح بمرور العجلات المدنية". أحسست برغبة شديدة في الضحك ورجعت عدة خطوات لألتقط صورة لهذا المنظر الكلاسيكي بالنسبة لي.

قبل 14 سنة، كنت في الصف الخامس الابتدائي، أمرّ بجانب مصنع الصمود العسكري كل يوم، أسمع أن صواريخ تصنع خلف هذه الجدران العالية، ألقي التحية على الجنديين اللذين يجلسان على جانب الطريق في الذهاب والعودة.

ذات يوم، رأيت شاحنة تجر عربة بطولها، وتحملان صاروخًا لم يكتف بمساحة الحوضين، فبقيت زعانفه طائفة في الهواء. رغم استقرار الصاروخ في الشاحنة بعيدًا عني، إلا أنني أحسست برعب شديد، وكأنه سينفجر فيّ وحدي، أو أنه خرج من المصنع يستهدفني، وعندما رويت ذلك لأهلي في البيت، قالوا لا تخف هذه القشرة الحديدية فقط، لن تنفجر عليك.

بعد ذلك المشهد بعام، دخلت "ست نائلة"، معاونة مديرة المدرسة، لتخبرنا أن الدوام انتهى، وكانت الساعة لم تتجاوز العاشرة والنصف، فرحنا كما يفرح الطلبة عادة بانتهاء دوامهم الدراسي مبكرًا، بعد عدة خطوات خارج المدرسة كان الجميع يحدّق في السماء، وكانت هناك بقع بيضاء غريبة ظننتها لأول وهلة غيومًا، لكن صوت الطائرة غير المرئية بين لي حقيقة الأمر.

عدت إلى دائرة أمي التي كانت مقابلة لمصنع الصمود الذي أجهزت عليه الطائرات الأميركية في الحرب، وكان هناك جو من الرعب غريب بين زملائها، لم أفهم شيئًا وقتها، لكن علمت أن معركة طاحنة تدور في منطقة قريبة نسبيًا منا. بعد ذلك بساعة، اقترب صوت الرصاص والانفجارات، ثم بدأ يمر من فوق رؤوسنا. قررت أمي أن نعود إلى البيت قبل أن يستحيل ذلك. خرجنا راكضين بين زخات الرصاص وكان ركام مصنع الصمود يحمينا من الإطلاقات الأفقية. أمام باب البيت كانت تستقر رصاصة، تمامًا حيث أنتظر أمي لتفتح لي الباب حين أعود من المدرسة. ربما كنت ميتًا في سيناريو آخر.

ها أنا الآن، هنا مرة أخرى؛ ضفتا الشارع أصبحتا أشبه بأرض جرداء يتناثر حولها الشوك. لا شيء هنا يدل على وجود حياة سابقة، سوى ذكرى خوفي الأول والثاني، وضحكتي الحالية. ربما كان كارل ماركس على حق: "التاريخ يعيد نفسه مرتين؛ في الأولى كمأساة وفي الثانية كمهزلة".

المساهمون