طريق الحرير... دائماً إلى روما من بكين

طريق الحرير... دائماً إلى روما من بكين

07 مايو 2020
+ الخط -
الصورة التي نستعيدها الآن هي تلك التي جعلت من زيارة ثنائية للرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى باريس، تتحوّل في سابقة إلى زيارة أوروبية له في 26 مارس/ آذار 2019، حيث عرفت حضور كل من المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل ورئيس المفوضية الأوروبية وقتها جون كلود يونكر إلى جانب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون طبعاً، والذي حاول أن يوازن أوروبياً ما فعلته الحكومة الائتلافية الإيطالية قبلها بأيام بانضمامها إلى مشروع القرن، بحسب الرئيس الصيني، "طريق الحرير الجديدة، الذي سيتحول إلى مبادرة الحزام والطريق BRI"، وهو مشروع للبنيات التحتية البحرية والبرية والرقمية التي تربط آسيا بباقي العالم، والذي يعود إدراكه إلى سنة 2013، إذ يسوّق الرئيس الصيني مشروعه تعزيزاً للتفاهم الدولي والتنمية الاقتصادية مقابل ثلاثي الشر الذي يهدّد السلم العالمي: الإرهاب والتطرّف والانفصالية، بالإضافة إلى الجريمة والمعاملات غير الشرعية... ولكن المشروع يضمن للصين التزود بالمواد الأولية التي تحتاجها من الدول النامية خصوصاً، والنهوض بمناطقها غير المتقدمة بعد ربطها بمناطق أخرى من العالم، ويؤهل الصين للريادة على الساحة الدولية، وقد تم تدوين المشروع في دستور الحزب الشيوعي المراجع سنة 2017. ومع انطلاق مشروعه الجبار، راهن الرئيس الصيني أولاً على تعاون أكبر مع الولايات المتحدة الأميركية، وتقريباً "همّش" الاتحاد الأوروبي كقوة اقتصادية عالمية، فمثلاً منذ سبع سنوات ومفاوضات حول اتفاق لحماية المؤشرات الجغرافية للمنتجات بين الصين والاتحاد واتفاقات الاستثمارات تراوح مكانها بينهما.
ولكن السياسة الاقتصادية العدائية التي سوف يتبناها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ضد الصين مع بداية صيف 2018، والتي بدأت تؤثر سلباً على معامل نمو اقتصادها، سوف تجعلها تؤمن أخيراً كما كان يترافع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، دائماً عن عالم جديد متعدّد الأقطاب. وسوف تستوعب أن اتحاداً أوروبياً قوياً محاوراً مهم، سوف تستند إليه أمام تسلط الرئيس الأميركي، وأنه في صالحها.
رسمياً، كان هذا هو الخطاب الذي يتبناه الرئيس الصيني، لكنه في الفعل كان يمارس سياسة 
"فرّق تسد" مع دول الاتحاد، ويتفاوض معها بشكل فردي، فقد نجحت الصين في دخول أسواق دول أوروبا الجنوبية الأكثر مديونيةً منذ 2009 تقريباً، ويعتبر ميناء بيريوس اليوناني أكبر رمز للحضور الصيني في البنية التحتية الأوروبية، فبعد اليونان والبرتغال في مجال خوصصة الطاقة خصوصاً، سوف تلتحق هنغاريا وبلغاريا كما جورجيا من القارة الأوروبية، من دون أن نتحدّث عن مجموعة 16+1 التي تخص دول أوروبا الوسطى والشرقية. أما خارج أوروبا فمشروع طرق الحرير الجديدة يضم الهند وإندونيسيا والفيليبين وطاجكستان وسلطنة عُمان وتركيا ومصر ونيجيريا. وقد نجحت الصين في ضم إيطاليا أيضاً بالتوقيع على اتفاق - إطار بين روما وبكين، هذه الدولة الأوروبية المؤسسة للاتحاد الأوروبي والعضو في مجموعة السبعة، قبل زيارة الرئيس الصيني إلى فرنسا بيومين، الأمر الذي أغضب المفوضية الأوروبية، والتي اعتبرته نوعاً من "الخيانة" من الحكومة الإيطالية، لكنها، ولضعفها، خضعت لبعض متطلبات المفوضية، وألغت اتفاقات شبكة الـ G5 مثلاً. والرئيس الصيني بدوره سيجعل من دولةٍ من حجم موناكو واحداً من أعمدة هذه التقنية الصينية في أوروبا، ويخصها بزيارة دولة قبل توجهه إلى نيس الفرنسية. قبلها بأسبوعين، كانت المفوضية الأوروبية قد أصدرت دراسة تصف فيها الصين "بالغريم على جميع الأصعدة"، قبل أسابيع قليلة فقط من انعقاد القمة الصينية - الأوروبية في بروكسل، وطبعاً بتأشير من الدول الأعضاء، فالرئيس الفرنسي ماكرون والمستشارة الألمانية ميركل ورئيس المفوضية وقتها كلهم اتفقوا على ضرورة التعامل مع الصين، ولكن في إطار المعاملة بالمثل، أي أن تفتح سوق الاستثمارات الصينية التي تستحوذ عليها الشركات العمومية أمام الشركات الأوروبية والرأسمال الأوروبي أيضاً. ومع أواخر 2019، سيتم أخيراً الاتفاق على حماية مائة مؤشر جغرافي للمنتوجات بين الصين والاتحاد يدخل حيز التنفيذ نهاية هذه السنة. وفي الباقي، اضطرت المفوضية الأوروبية إلى اتفاق مع البرلمان والمجلس الأوروبيين، لصياغة آلية تمكنها من ترشيح الاستثمارات الأجنبية في دول الاتحاد، نظراً إلى شهية الاستثمار التي أبدتها بعض الدول الكبرى، ومن بينها الصين التي ضاعفت استثماراتها ست مرات في العشرين سنة الأخيرة.
كانت هذه إذن انطلاقة لنوع من "الحمائية" الأوروبية، عززها أيضاً اتفاق ترابط مع اليابان لحماية السوقين أمام الصين والولايات المتحدة.
عموماً هذه هي الخلفية التي أعطت انطباعاً بتشتت أوروبي في بدايات أزمة كورونا، خصوصاً في حالتها الإيطالية، حتى جعلت بعضهم يتنبأ بفناء الاتحاد الأوروبي في مرحلة ما بعد - كورونا، وفضلت أيضاً تلك المساعدة/ المشهد التي قدمتها الصين لإيطاليا وبعض الدول الأوروبية، وكذلك حاولت أن تفعل روسيا أيضاً، على الرغم من أن الاتحاد الأوروبي كان أول من ساعد الصين حين احتاجت للمساعدة، وهي تعالج أزمة كورونا في بدايتها، بإرسال 56 طناً من المواد، من دون أن يجعل منها مشهداً إعلامياً، ولا أن يوظفها سياسياً كما جاء رداً على لسان وزيرة الدولة الفرنسية للشؤون الأوروبية.
سيكون الاتحاد الأوروبي رقماً صعباً في المعادلة الدولية لمرحلة ما بعد كورونا، وفي عالم متعدّد
الأقطاب، فبعد الطريقة التي أدارت بها أزمة كورونا، فقدت الصين حظوظها مرحلياً في قيادة العالم، وسوف يقل اعتماده عليها كورش صناعية لاحتياجاته، كما كان الوضع قبل كورونا، زيادة على ضبابية تمويلها مشروع "طرق الحرير الجديدة"، فالمديونية الداخلية للدولة كبيرة، وكذلك مديونية الدول المستفيدة من المشروع، وحتى عدم استقرار بعضها، فهناك سابقةٌ حذر منها صندوق النقد الدولي قبلاً تحت رئاسة كريستين لاكارد، عندما فقدت سيريلانكا السيطرة على ميناء هامبانتوتا الاستراتيجي، لأنها عجزت عن تسديد أقساطه للصين. وللأخيرة إكراهاتها الداخلية أيضاً، فلا يزال 600 مليون صيني تحت عتبة التنمية، كما أنها ما زالت تستورد 50 مليون طن من الحبوب سنوياً، ولذلك حظوظها قبل الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية لتخطي هذه الإكراهات ضئيلة جداً. في الوقت نفسه، سيرتب الاتحاد بيته الداخلي جيداً، فبعد فتور عامل المفاجأة في تدبير الأزمة، ومع التدابير الاستباقية والجيدة للبنك المركزي الأوروبي الذي ترأسه كريستين لاكارد، سواء بضخ مليارات اليوروهات، أو شراء ديون الدول الأوروبية، والتي استفادت من إدارة الأزمة المالية قبل عشر سنوات، وهي وزيرة المالية الفرنسية، رأينا تضامناً أوروبياً حقيقياً بين الدول. ويبقى الخلاف حول "صندوق كورونا"
قائماً، وبالطرق الديموقراطية وآلياتها، وفي مقدمتها الحوار، والدول المشككة، مثل ألمانيا وهولندا، مع رئيسة للمفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، التي ترأست اكتتاباً عالمياً لجمع 7,5 مليارات يورو تقدّم لتمويل البحث العلمي العالمي قصد إيجاد لقاح وعلاج لفيروس كورونا بتنسيق مع منظمة الصحة العالمية، يكون متاحاً لكل الدول، هذه الطرق الديمقراطية سوف تساهم في تجاوز الخلافات. كما أظن هذا رداً دبلوماسياً بديهياً وفعلياً على قرار الرئيس الأميركي، ترامب، قطع تمويل منظمة الصحة العالمية؛ ترامب، الذي صدم الأوروبيين بمحاولة شرائه لشركة ألمانية تشتغل على إنتاج لقاح للفيروس، كما صدمهم من قبل بقراراته بخصوص حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ووجدوا أنفسهم في وضع محرج أمام حلفائهم في الأزمة السورية مثلاً.
كذلك سيفكر الأوروبيون في ترسانة دفاعية أوروبية بديلة، وطبعاً سيلجأون إلى إعادة توطين الإنتاج، خصوصاً للقطاعات الحيوية والصحية منها، بشكل مستعجل، فالسوق الموحدة أكثر من مغرية بالنسبة لدول الاتحاد، بل هي بديلهم لمرحلة ما بعد كورونا، والتي سوف تستفيد منها دول وسط أوروبا وشرقها، والمتمنى أن تستفيد منها إنتاجياً وأن تؤهل الدول المغاربية نفسها لذلك أيضاً.
30C8F68A-F5B6-4CF1-ADAD-738B702076F1
30C8F68A-F5B6-4CF1-ADAD-738B702076F1
نعيمة عبدلاوي
كاتبة وشاعرة مغربية من بروكسل.
نعيمة عبدلاوي