طالما الدم المصري رخيصاً

طالما الدم المصري رخيصاً

16 أكتوبر 2014

عناصر من الأمن المصري يتهيأون لقمع طلاب جامعة القاهرة(12أكتوبر/2014/الأناضول)

+ الخط -

لا أدري كم شكلاً، أستطيع أن أحصيه في إزهاق أرواح المصريين، طوال الفترة التي امتدت أكثر من سنوات ثلاث بعد ثورة 25 يناير. أرى كل يوم شكلاً جديداً من طرائق الموت تحيط بالمصريين، التي تعبر، في حقيقة الأمر، عن استهانة واستخفافٍ بحرمة النفس البشرية، فافتقدت مصر، منذ زمن، كيف تحمي حق الحياة بالنسبة للمواطن المصري، ولا تجعله عرضة لهلاك أو إهلاك... صورة كئيبة، والواقع أدهى وأمَر. 

المواطن المصري سقط متاع، لا يهتم به أحد، يموت كل يوم. ومع ذلك، يُرفع الشعار "تحيا مصر"؛ كيف يمكن أن تحيا مصر بموت أبنائها، أو قتلهم والاستهتار بحياتهم، والتفريط في دمائهم وإزهاق أرواحهم وقتل نفوسهم، تقوم بذلك كله سلطة استبدت، استخفافا واستهانة بقيمة النفس والإنسان. في كل الأحوال، تمارس السلطة عملاً يجب أن تُسأل عنه، وتحاكم عليه. 

قد نرصد بعض الأشكال، فهذا قناص قنص الناس في أيام ثورة يناير، من خلال تصويباته، يقنص من شاء، ومتى شاء، كأحمد بسيوني وغيره من زهرة الشباب "الورد اللي فتح في جناين مصر". واستمر مسلسل القنص، وطال أشرف الناس، فهذا الشيخ عماد عفت، وهذا الطبيب علاء عبد الهادي، وتمر بنا المحطات، ويقنص أحمد عاصم، وهو يحمل كاميرته، وتقنص أسماء البلتاجي، وهي تقف مسالمة في قلب ميدان رابعة. القنص أصبح حرفة الجبناء، وادعت وزارة الداخلية المصرية أنه ليس لديها قناصة، فمن، إذن، قنص هؤلاء؟ وقد بُرئ كل من اتهم من شرطة "الداخلية" في ساحات القضاء.

وتطل علينا طريقة أخرى في إزهاق أرواح المصريين، الدهس بالسيارات والمدرعات، فهذا إسلام رأفت، الشاب العشريني، دهس بسيارة دبلوماسية، وها هي المدرعة تدوس وتدهس أجساداً في مجزرة ماسبيرو، حينما تدهس مينا دانيال وصحبها لتعبر عن آلة باطشة، تستخف بالأرواح، فتدهسهم بسيارات طائشة، أو مدرعات قاتلة. الدهس من أنماط القتل بدم بارد، وهو عمل لا يدل فقط على الجبن، وإنما كذلك يدل على الإجرام.

وها نحن أمام أسلوب جديد في إزهاق الأرواح، هذه المرة، بالحرق والخنق، عربة الترحيلات التي قضى فيها 37 نفساً خنقاً وحرقاً، مع سبق الإصرار والترصد، ومع ذلك، نال المتهمون البراءة، لأن هذه النفوس، فى عرف هؤلاء، ليس لها ثمن، وليس لها أي قيمة. إنه المواطن المصري العادي الذي تطوله كل أشكال الاستهانة بكيانه وروحه، تُقتل نفسه بطرائق شتى. الأهالي يبحثون عن ذويهم بين أجساد متفحمة، يتفحصون وجوهاً، اختفت معالمها وطمست بفعل الحرق والتحريق، أليست تلك خساسة؟ خساسة القاتل حينما يحرق ويخنق.

وتطل علينا المآسي، فتكتمل حلقات إزهاق النفوس، والاستهانة بالأرواح. ها هي نفوس طالها الإفقار المتعمد في بر مصر، بطالة وعطالة طاحنة لشبابها، ورب أسرة يضرب أخماسا في أسداس، دخله لا يكفيه، ولا يسد مطالبه الحياتية التي تتراكم، أو تحقيق ضرورات أبنائه واحتياجاتهم التي تتعاظم. الأمر فوق طاقته، أو طوقه، بما لا يمكنه من الإنفاق على أهله. إنها حالات انتحار، نراها، يوماً بعد يوم، انتشرت في جغرافيا مصر ومحافظاتها، حتى فاق عدد المنتحرين، في أسبوعين، العشرين حالة انتحار. غلاء في الأسعار كلهيب النار، يأكل الأخضر واليابس، ويجعل من رب الأسرة رجلاً يائساً، وفي لحظات يقدم على الانتحار، من ألجأه إلى ذلك؟ فها هو شاب يحرق نفسه، وآخر يلقي بنفسه في النهر، بعد انقطاع الأمل، وانسداد أفق المستقبل، ورب أسرة يشنق نفسه في لوحة إعلانات، الانتحار صار ظاهرة تؤشر على الإفقار وغلاء الأسعار في بر مصر. 

وها هو القضاء يسهم في مهرجان القتل، بفيض من الإعدامات. بجرة حكم قضائيٍ، صار الإعدام وتحويل أوراق أي إنسان إلى المفتي من المسائل اليسيرة، حتى كان ذلك الرقم القياسي من أحكام الإعدام في وقت يسير وقصير. كيف يمكن لقاضٍ أن يستهين بالنفوس، محاكماً ما يزيد عن الألف، مُصدراً عليها أحكاماً بإعدامهم، في بضعة أيام، من غير تحقيقٍ أو سماع شهود، بل إنه لم يكلف خاطره بقراءة الأسماء، حتى إن من بين المحكوم عليهم شخصا مات بالفعل، بالإضافة إلى الحكم بإعدام طفل (حدث)، بما يخالف كل عرفٍ، أو قانون.

وفي مسلسل القتل بالإفقار والاستخفاف، نرى الذين يلقون بأنفسهم في قوارب التهلكة، رغبة منهم في الهجرة إلى قارة أوروبا، فيكون مستقرهم قاع البحر العميق الذي يشكل قبراً لهم من بعد غرقهم، ما الذي دفع هؤلاء الشباب إلى ركوب قوارب الموت، مستهينين بحياتهم وبأنفسهم، إلا بعد أن ضاقت سبل الحياة في وجوههم، ثم يأتي أصحاب السلطة، في كل مرة، يلملمون بعض الغرقى، ويوزعونهم على ذويهم وأهليهم. 

وها هم الذين ينشئون ملاعب الجولف الواسعة، والعمارات الفارهة والكومباوند المحاط بالأسوار العالية، وتلك الشاليهات في الساحل الشمالي، يتخذونها سكنا مؤقتا لرفاهة يوم أو يومين؛ لكنهم استرخصوا نفوس الناس، فتركوهم يركبون "معديات" هالكة مميتة، من دون أن يُشملوا بعين العطف والرعاية، لإنشاء جسر ينقذ هؤلاء من تلك المخاطرة اليومية، "بئر معطلة وقصر مشيد". وفي النهاية، سكن هؤلاء قاع النهر، في ظل حديث للمحافظ عن بضعة آلاف من الجنيهات تعويضاً عن الموت، إنه ثمن المصري في بورصة حقوق الانسان فى هذا الزمان.

هؤلاء فاضت أرواحهم في نزيف الإسفلت في حوادث طرق مهينة، تحصد النفوس من طرق متهالكة، مصير من يستخدمها الهلاك، ويقضى هؤلاء على إسفلت الطريق، وليس هناك من سائل، أو مُسائل، لماذا لم يُمهد لهم الطريق.

في كل مرة، تسقط أرواح وتُقنص نفوس، وتُحرق وتُخنق وتشنق وتغرق، وتُقضى على الأسفلت، أو تُفقر فتنحر أو تنتحر. في كل مرة، لم يُحاسب المسؤول عن تقصير أو إهمال، ولا يُساءل مجرم عن دم أريق، فيُستخف بالدماء من غير قصاص، فتضيع حكمة "ولكم في القصاص حياة"، وتصرخ كل نفس بأي ذنب قُتلت؟

يا أهل مصر "طول ما الدم المصري رخيص.. يسقط.. يسقط أي رئيس".

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".