ضحايا الصراع بين "ولاية الفقيه" و"ولي الأمر"

ضحايا الصراع بين "ولاية الفقيه" و"ولي الأمر"

17 نوفمبر 2017

إيرانية أمام ملصق للخميني وخامنئي في طهران (31/1/2015/فرانس برس)

+ الخط -
(1)
الحفر في جذر الخلاف يهدي إلى بداية طريق الحل، فنحن نشهد اليوم صراعاً سياسياً له تطبيقات وتجليات عسكرية واجتماعية معقدة، بين ما يبدو كأنه عالم سني وعالم شيعي، ويختبئ داخل هذا الصراع تنازعٌ له أصل فقهي بين نظريتيْ "ولاية الفقيه" و"ولي الأمر"، ويحشد كل فريق من أصحاب النظريتين أفكارا ورجالا ووسائل إعلام، وأسلحة أيضا، لإظهار أحقية كل فريق في قيادة الأمة الإسلامية.
هناك مخاطر لوضع كلتا النظريتين على مستوى واحد من البحث، حيث يستفز هذا الأمر أنصار كلتا النظريتين، خصوصا من فئة "فقهاء السلطان" في المعسكرين. لكن للضرورة أحكامها، حيث يختلط السياسي بالديني على نحو قهري وجبري في غالب الأحيان، تطبيقا لتجليات "طبائع الاستبداد"، حيث يتحالف الاستبدادان، الديني والسياسي، لتدفيع الشعب ثمن الصراع، بوصفه دينيا، وحمايةً للعقيدة، مع أنه في جوهره صراع على السلطة الزمنية، استنادا إلى السلطة الدينية، وبحث عن الشرعية التي تؤبد طاعة الحاكم، وليا للأمر كان أو وليا للفقيه، وعصمته من الخروج عليه، وحصانته حتى من النقد.

(2)
عُرفت ولاية الفقيه "شرعياً" في الفقه الشيعي أنها "حاكمية المجتهد الجامع للشرائط في عصر الغيبة". وجذر النظرية يعود إلى قول الشيعة الإمامية إن النبي صلى الله عليه وسلم عين علياً للإمامة بالاسم والنص المباشر، وإن هذه الإمامة تستمر كذلك في ابنيه الحسن والحسين، وتتسلسل بشكل وراثي عمودي في ذرية الحسين، وكل إمامٍ يوصي لمن بعده إلى أن تبلغ الإمام الثاني عشر المهدي الغائب المنتظر. ويعتمد جوهر النظرية الإمامية على القول بعدم جواز خلو الأرض من قائمٍ لله بالحجة (الإمام)، ويجب أن يكون معصوما، وتفوق أحيانا تلك العصمة التي يثبتها أهل السنة والجماعة للنبي عليه الصلاة والسلام، وهو مشرع ومبلغ عن الله يتصف بالعلم اللدني الإلهي، ويوحى إليه من الله بالإلهام، لكن وفاة الإمام الحادي عشر الإمام الحسن العسكري في سامراء سنة 260 هـجرية من دون إعلانه عن وجود خلف له، أحدثت شكاً وحيرةً بشأن مصير الإمامة. فافترق الشيعة إلى أربع عشرة فرقة، واحدة منها فقط قالت بوجود 
خلف للإمام العسكري، وأن اسمه محمد، وقد أخفاه والده خوفاً من السلطة فستر أمره. ويروي الطوسي في "الغيبة" (ص 141 وما بعدها) قصة ولادة المهدي وما فيها من خوارق، وينقل حديثاً للحسن العسكري، يجيب به عمته عن مكان ولده: "هو يا عمة في كنف الله وحرزه وستره وغيبه، حتى يأذن الله له، فإذا غيب الله شخصي وتوفاني، ورأيت شيعتي قد اختلفوا، فأخبري الثقات منهم، وليكن عندك وعندهم مكتوبا، فإن ولي الله يغيبه الله عن خلقه، ويحجبه عن عباده، فلا يراه أحد حتى يقدم له جبرائيل فرسه (ليقضي الله أمراً كان مفعولاً)". فكانت هذه الغيبة الأولى، وتتصل بإخفاء ولادته، وسميت الغيبة الصغرى، علما أن فكرة غياب الإمام تتناقض مع فلسفة الإمامة التي تقول بعدم جواز خلو الأرض من قائمٍ لله بالحجة، ووجوب كونه معصوماً، ووجوب التعيين له في كل مكان وزمان. استمرت الغيبة الصغرى للإمام المهدي من سنة 260هـ إلى سنة 329هـ، وهي المدة التي كان يتصل فيها بالناس عبر نوابه (ويسمون السفراء والأبواب). ولم يوثق الاثنا عشرية إلا أربعة نواب مع أخذ ورد، واشترطوا لإثبات النيابة أن يأتي مدّعي النيابة بدليل أو بمعجزة وكرامة تدل على اتصاله بالمهدي (أورد الطوسي في كتاب الغيبة أخبارهم). وينقل منه الرسائل والتواقيع إلى المؤمنين به، ويأخذ إليه الأموال. وكان علي بن محمد السمري خاتم النواب، وتوفي سنة 329هـ، وكان آخر توقيع نقله عن المهدي فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم.. فإنك ميتٌ ما بينك وبيني ستة أيام، فاجمع أمرك، ولا توص إلي، فيقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامة، فلا ظهور إلا بعد إذن الله، تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جوراً. وسيأتي لشيعتي من يدّعي المشاهدة، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر". ولما كان اليوم السادس، قيل له: من وصيك من بعدك؟ فقال: "لله أمرٌ هو بالغه"، وقضى (أي مات) فهذا آخر كلام سمع منه، وهكذا دخل العالم مرحلة الغيبة الكبرى.
يكتب شفيق شقير، مسؤول قسم البحوث والدراسات في بيت الدعوة والدعاة (لبنان)، في بحثه في "الجزيرة نت"، "نظرية ولاية الفقيه وتداعياتها في الفكر السياسي الإيراني المعاصر"، إنه بانقضاء الغيبة الصغرى وبدء الغيبة الكبرى، دخل الاثنا عشرية في غيبوبة التقية والانتظار. ففكرة النيابة الخاصة أعطت فرصةً للاثني عشرية في مرحلة الغيبة الصغرى، كي تعيد النظر في بنائها، واستعملت هذه النيابة في حينها لإثبات وجود المهدي، وحماية مذهب الإمامية من الانتكاس والضعف. وأهم ما فيها أنها أرست فكرة جواز النيابة عن المهدي حينئذ، ولكن في فترة الغيبة الكبرى، كان لا بد من مخرجٍ ما، لسياسة أمر الناس عبر قائد تؤصل مكانته شرعيا، ومن هنا ولدت نظرية "ولاية الفقيه" التي تقول المصادر المختلفة أنها تبلورت في العصر الحديث على يد الشيخ أحمد النراقي، مؤلف كتاب "عوائد الأيام" في أصول الفقه، والمتوفى عام 1829، وطبقها الإمام الخميني أول مرة عام 1979.
وبموجب ولاية الفقيه، صارت المرجعية الدينية والسياسية أيضا مصدر الإفتاء والأحكام،
 وتطورت من مهمة الإرشاد الروحي إلى شكلها المعاصر، المتمثل في المرشد الأعلى للثورة الإسلامية الذي يهيمن، بسلطاته الجمّة، على مؤسسات الدولة الإيرانية كلها. يقول آية الله خليل مبشر كاشاني، وهو أحد مراجع حوزة قم الشيعية، إن ولاية الولي الفقيه تكوينية، يتمكن الولي الفقيه بموجبها من التحكّم بمجريات الكون. ويقول أيضا إن الولي الفقيه يتحكم في إنزال المطر، والغيوم تمتثل لأوامره. وفي حديثه لوكالة تسنيم للأنباء التابعة للحرس الثوري، قال كاشاني إن ولاية الأئمة الإثني عشر للشيعة تكوينية، وإنهم كانوا يتحكمون بالمقادير، وتغيير مجريات الأمور الكونية. مضيفاً أن جزءاً من هذه الولاية التكوينية انتقل من خلال الإمام الثاني عشر إلى الولي الفقيه.
وغير بعيد عن هذا، يعتبر ممثل الولي الفقيه في الحرس الثوري، علي سعيدي، ولاية خامنئي أنها ولاية الله على الأرض، وأن لدى الولي الفقيه تواصل مع السماء، وأن دوره في مستوى دور النبي، وأن مبدأ ولاية الفقيه من أعظم تدابير الله لإدارة أمور الناس، وأن ربط شرعية الولي الفقيه بالتأييد الشعبي ينافي أسس دين الإسلام، وأن دور الشعب هو التعاون في إقامة النظام الإسلامي، وليس إعطاء الشرعية للولي الفقيه.

(3)
هذا فيما يتعلق بنظرية "الولي الفقيه"، فماذا عن نظرية "ولي الأمر"؟ يختلف الحديث هنا عما ورد في نظرية الولي الفقيه من غيبيات، وإن استند المخيال الشيعي في غيبياته على أحاديث المهدي المنتظر في الفقه السني، واستأنس بها على نحو أو آخر، علما أن كل أدلة فقهاء الشيعة في تأصيل قصة الإمام الغائب عقلية، وليست نقلية. وتختفي في بطنها رغبة سياسية في الحفاظ على المذهب، لا الحفاظ على الإسلام، ويلفت النظر هنا محاولات علي شريعتي في ترشيد فكرة الإمام الغائب، وعقلنتها، حين اعتمد مبدأ ولاية المفكر، لا الفقيه، ولاية مؤقتة، حتى تبلغ الجماهير مرحلةً من الوعي، تمكّنها من فرز قياداتها، وحكم نفسها بنفسها.
ولي الأمر في الفقه السني مستند إلى جملةٍ من الأحاديث النبوية، والنصوص الشرعية التي تسقط العصمة عنه، ولا تؤهله للتحكم بمصائر البشر، ولا الحديث باسم الله عز وجل، لكن تطبيقات النظرية في الأنظمة التي قامت على شرعية الشريعة، حرفت النظرية، ولوت أعناق النصوص، حتى ألقت على ولي الأمر عصمةً من نوعٍ ما، فأعطته حقوقا ليست له، فلا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، إلا أن ثمة نصوصا فقهية في قصة "الخروج على الحاكم الظالم" سوّغت لفقهاء السلاطين، ولتحالف الاستبدادين، الديني والسياسي، تأبيد حكم ولي الأمر، ورفعه إلى درجةٍ ما من القداسة، تفرض "احترام" مغامراته وسوءاته كلها، باعتبارها طاعة لله، كونه يستمد ولايته من الآية الكريمة في سورة النساء: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)﴾. يقول الإمام الشافعي: أولو الأمر الذين يعلمون الأمر العلماء، وأولو الأمر الذين ينفذونه الأمراء، والحديث في هذه المسألة في غاية التعقيد، لدى من رأى وجوب الصبر على الحاكم الظالم، ومن رأى وجوب الخروج عليه، وثمّة رأي شائع يقول إن هناك إجماعا لدى جمهور العلماء على حرمة الخروج على ولي الأمر الظالم. ويرد على هذا القول ابن حزم، حيث ينكر على من يقول بإجماع الأمة على حرمة الخروج على الظالم، ويؤكد أن أفاضل الصحابة وأكابر التابعين وخيار المسلمين خرجوا على الظالم، فقال:
"وقد علم أن أفاضل الصحابة وبقية الناس يوم الحرة خرجوا على يزيد بن معاوية، وأن ابن 
الزبير ومن تبعه من خِيار المسلمين خرجوا عليه أيضا، وأن الحسن البصري وأكابر التابعين خرجوا على الحجاج بسيوفهم أترى هؤلاء كفروا؟". بل إن أهل السنة يحرمون القتال تحت راية "ولي الأمر" الظالم ضد من يخرج عليه ويطالب بحقه. يقول ابن حجر: "إلا أن الجميع يحرّمون القتال مع أئمة الجوْر ضد من خرج عليهم من أهل الحق". ويرون أن من خرج على الحاكم الظالم الذي يريد أن يسلب حقه معذور. وفي هذا يقول ابن حجر "وأما من خرج عن طاعة إمام جائر أراد الغلبة على ماله أو نفسه أو أهله فهو معذور، ولا يحل قتاله، وله أن يدفع عن نفسه وماله وأهله بقدر طاقته". كما يحرمون قتال الخوارج الذين يكفرون المسلمين إذا خرجوا على إمام جائر، ومما كتبه ابن حجر في "فتح الباري/ 12/286": "قال الإمام علي عن الخوارج: إن خالفوا إماما عدلا فقاتلوهم، وإن خالفوا إماما جائرا فلا تقاتلوهم فإن لهم مقالا". وقال ابن القاسم، وهو من تلاميذ الإمام مالك: "ولو دخلوا مدينة لا يريدون إلا الإمام وحده فلا تقاتلوهم إذا كان الإمام جائرا ظالما". وسئل مالك عن الحاكم إذا قام من يريد إزالة ملكه هل يجب الدفاع عنه فقال: "أما مثل عمر بن عبد العزيز فنعم، وأما غيره فلا ودعه وما يريد، فينتقم الله من ظالم بظالم، ثم ينتقم الله منهما جميعا". (المرجع: العقد المنظم بحاشية تبصرة الحكام 2/195).

(4)
هناك معارضون ومنتقدون لكل من يؤمن بعصمة ولي الأمر أو الولي الفقيه، ولكن أصوات هؤلاء لا تُسمع عادة، بل ربما تعرض أصحابها لقمع وسحق بلا رحمة، فيغير حقبة من حقب التاريخ، فالكلمة العليا لأصحاب الشوكة في النظريتين، وهما اليوم يقودون الأمة الإسلامية إلى حروبٍ طاحنة، ليس حمايةً للإسلام، بل حماية لسلطتهم، ذلك أن الصراع بين الجهتين يشبه صراع فيلين ضخمين، لا يهتمان بالعشب الذي يسحقانه بأقدامهم. والأسوأ من هذا أن للمتنفذين في بلاد النظريتين سلطة مطلقة في اتخاذ القرار، وبلا مساءلة تقريبا، وتحت أيديهم ثروة مالية هائلة، ولكل منهما حساباته الداخلية، وربما ارتباطاته الخارجية، وهما يجرّان الأمة كلها إلى حتفها، ولا بد من إصلاح فكري عميق، يقوّم اعوجاج أصحاب النظريتين، وتطبيقاتهم الخاطئة لهما، قبل أي عملية إصلاح سياسي أو اقتصادي. وحتى ذلك الحين، يبدو أنهما سيلقيان في القبور آلافا، وربما ملايين من الضحايا، بزعم الدفاع عن الأمة، وهما يغرقونها في كارثةٍ لا يعلم سوى الله متى تنتهي.