صورة الإجرام الموحّدة

صورة الإجرام الموحّدة

24 نوفمبر 2019
+ الخط -
بعد العدوان الإسرائيلي أخيرا على قطاع غزة، والذي استمر نحو ثلاثة أيام، وأوقع 34 شهيداً فلسطينياً، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي عشرات من الصور التضامنية مع القطاع والضحايا الذين سقطوا بنيران قوات الاحتلال، وخصوصاً الأطفال منهم. ولكن المفارقة كانت أن غالبية الصور المستخدمة تعود إلى سوريين قتلوا بنيران قوات النظام والروس والمليشيات الحليفة للطرفين، سواء في إدلب أو حلب أو غيرها من مناطق في سورية دمّرت بالبراميل أو الصواريخ أو الغارات الجوية. حتى أن بعض الصور المستخدمة تعود إلى سنوات خلت، ومنها صورة لطفلين يتعانقان وينتحبان في حلب عام 2016 بعد اكتشاف أن شقيقهما قتل في غارة على منزلهم. 
صور كثيرة انتشرت وتمت مشاركتها من دون تدقيق، والمفارقة أن معظم الذين شاركوا هذه الصور هم من المؤيدين لنظام الأسد والناقمين على الثورة السورية باعتبارها "زعزعت نظام الممانعة في دمشق، وصبت في خدمة إسرائيل"، حتى أنهم يعيشون حالة إنكار تامة للإجرام الذي يقوم به النظام وحلفاؤه، وأن رئيس البراميل يستهدف الأطفال والنساء، فكل ما يرونه هو "حرب على الإرهابيين" الذين هم الشعب السوري نفسه الذي خرج ضد حكم آل الأسد، وهو ما اكتشفوه، ربما بأنفسهم، عبر مشاركتهم صور من الإجرام الأسدي، باعتبارها جرائم إسرائيلية. وربما اكتشفوا أيضاً أن الإجرام واحد، إسرائيلياً كان أو سورياً أو عراقياً أو إيرانياً، طالما أنه يستهدف مدنيين عزّل، ويمارس تطهيراً عرقياً مقصوداً. وربما أيضاً راجعوا قليلاً موقفهم الأخلاقي مما حدث ولا يزال يحدث في سورية، وتبيّن لهم أنهم كانواً على خطأ في وقوفهم إلى جانب نظام يقتل شعبه.
أقول ربما، لأن كل هذا لم يحدث، بل على العكس تماماً، فكل مؤيد لنظام الأسد نشر هذه الصور، وبعد إدراكه أنها ليست من غزة، وإنما من سورية وتمت بالآلة العسكرية التي يصطف إلى جانبها، لم يكلف نفسه عناء الإشارة، ولو العرضية، إلى إعلان التضامن مع الضحايا المدنيين في كل مكان، بل ببساطة حذف الصورة أو الصور الكثيرة التي انتشرت من سورية، وعاد إلى مقعد المتفرّجين على مقتلة الشعب السوري، وهو يردد المبرّرات نفسها ليعيد إقناع نفسه بأنه لا يزال في المكان الصحيح، إذا كان مهتماً أساساً بمعرفة ما إذا كان موقفه صحيحاً أو لا. إذ إن مؤيدين كثيرين لنظام الأسد، في داخل سورية وخارجها، وهم ما اصطلح على تسميتهم "الممانعين"، يرون أن الخارجين على هذا النظام يستحقون القتل، وهم لا يتورّعون عن الإفصاح عن هذه المواقف ومثلها سواء في مجالسهم أو على منصات مواقع التواصل. لا يفرّقون بين مدني أو عسكري أو رجل أو امرأة أو طفل أو مسن، فكلهم سواء طالما اتفقوا على معارضة الأسد ونظامه، واختاروا الانتقال إلى "مناطق الإرهابيين"، فهم إذن بيئة حاضنة لهؤلاء الأخيرين.
قد لا يكون انتشار هذه الصور اعتباطياً. ربما هناك من تقصد نصب مثل هذا الفخ لاختبار التضامن الأخلاقي، وما إذا كان يتغير بين ضحية وأخرى، وهو بالفعل ما أظهره هذا الاختبار، في حال كان أحد ما يتقصده. فالضحية، بالنسبة لممانعين كثيرين يختلف بحسب خلفيته وبحسب قاتله، فهناك تفاوت بنسبة التضامن، أو انعدامه، وهو ما لا يقف على سورية فقط، فالأمر نفسه تمكن رؤيته في العراق، فلا تضامن بالمطلق مع كل ضحايا الأمن من المتظاهرين، فهؤلاء ضالعون في "المؤامرة" على الأنظمة التي تدور في الفلك الإيراني، وبالتالي يستحقون المصير الذي لقوه. بالنسبة إلى هؤلاء، لا تمكن المساواة بين صور الإجرام، على الرغم من أنه واحد، مهما تمت تغطيته بعبارات وأيديولوجيات.
حسام كنفاني
حسام كنفاني
صحافي لبناني، يشغل حاليًا منصب رئيس تحرير "العربي الجديد"، له منشورات في عدّة صحف لبنانية وعربية. يعمل في مجال الصحافة منذ أكثر من 25 عامًا، وهو من مؤسّسي موقع وصحيفة "العربي الجديد".