صوت سيارات الإسعاف أصدق إنباء من الإعلام

صوت سيارات الإسعاف أصدق إنباء من الإعلام

24 مارس 2020

ضد كورونا وورد لعيد الأم في لندن (22/3/2020/قرانس برس)

+ الخط -
استوقفني شابٌّ في السوبرماركت، ليقول لي إن الكمّامة التي أضعها لا داعي لها. أنا شابة، ولن يموت سوى الكبار في العمر من المصابين بفيروس كورونا. الشاب في الثلاثينات يرتدي البدلة السوداء المعتادة للموظفين في أشغال متوسطة إلى متدنية الدخل. قد لا تكون الخلفية الاجتماعية للشاب مهمة، وهو ينطق بما يردده مـئات غيره من البريطانيين. أسمعه يستنكر حرصي، فيخيل لي أني أسمع صوتا من الإعلام المصري البوقي، وهو يقول: لا قتل ولا اعتقالات ولا تعذيب في البلاد. إنهم الإسلاميون فقط.
ليس غريبا أن يبدي الشاب هذا القدر من الاستهتار في البلاد، حيث باتت الأنانية الفردية أسلوب حياة عزّزتها سنواتٌ من حكم المحافظين. وليس غريبا أيضا أن يبدي هذا القدر من الثقة في لندن، حيث حالات الإصابة تتصاعد بوتيرة مخيفة، بعد أن تحول الإعلام البريطاني إلى المروج الرئيسي لرسالة الحكومة أن كل شيء على ما يرام، ولا داعي للقلق. ذهب رئيس الحكومة إلى حد أن يدعونا إلى تقبل إننا سنفقد أحباء لنا، وكأن لسان حاله يقول إن احتمال موت أعداد كبيرة من الكبار في العمر أمر طبيعي، لا يستدعي تداركه. قدّم بعض الإعلام تصريحه على أنه تعبير صادر عن رجل دولة، عوضا عن مساءلة تخاذل حكومته.
تحول الإعلام البريطاني، في غالبيته العظمى (لتفادي التعميم) إلى نسخةٍ متقدّمة من إعلام "المسؤولية الاجتماعية" التي طالما استخدمته ديكتاتوريات ما يسمى العالم الثالث، لتعزيز دعم سياساتها، وإقناع العامة قليلي الاطلاع والحيلة أن كل شيء على ما يرام، ولا داعي للقلق. ولا داعي بالتأكيد للنقد لمن تجرّأ عليه. إلى جانب استطلاع آراء الأطراف الرئيسية من الخطة الحكومية لمواجهة الوباء، والتي لا تزال هلامية. يبث الإعلام يوميا شعورا زائفا بالارتياح، 
وبأن الحياة مستمرة بشكل طبيعي إلى حد كبير. يترجم المتلقون الرسالة بالإقبال على أماكن الترفيه، حيث يتجاورون ويتبادلون الفيروس من حيث لا يدرون. تقول السيدة المتقدّمة في العمر لمراسلة المحطة التلفزيونية إنها تقصد المقهى مع زوجها، لأنها لا تريد أن تغير عاداتها سوى غسل يديها. تكاد المراسلة تشيد بـ"إيجابيتها". بعدما ساهم الإعلام في إشاعة وهم الدولة العظمى التي لا تحتاج إلى أوروبا في التعاطي مع أزمة بريكست، ساهم اليوم في إنتاج وهم الدولة القادرة على احتواء الفيروس الرهيب، عبر تشجيع المواطنين على التقاط الفيروس لاكتساب المناعة، في حين أن إمكانات النظام الصحي العام لا تزيد عن ثمانية آلاف سرير. وقد يكون دغدغ أوهام ورثة الإمبراطورية أنهم أعصياء على المرض، بما في ذلك فيروسات يرونها لصيقة بتصوّرهم للعالم الثالث.
دخلنا عالم التسريبات الإعلامية، وهي من السمات الرئيسية للإعلام المقيد. خطة الحكومة غامضة، وما تناقلته تسريباتٌ نقلا عن وثائق يقول الصحافيون إنهم اطلعوا عليها، أو معلومات نقلا عن "مصادر" على نسق إعلام "علمنا من مصادر مؤكّدة". الأهم أن الصحافيين دخلوا 
حلبة السباق على معلومةٍ يُفترض أن تكون متاحة للرأي العام يوميا بكل شفافية وبالمعلومات كاملة. أخرجت صحيفة الغارديان وثيقة كتبت إنها اطلعت عليها حملت أرقاما نزلت علينا كالصاعقة. التقرير الذي أبقته الحكومة سريا يتوقع حوالي ثمانية ملايين مصاب بحاجة لعلاج في المستشفيات، وأن 80% من سكان البلاد سيصابون به في أزمة ستجتاح البلاد عاما، وسترزح تحت وطأتها المستشفيات العامة. وتوقع فريق طبي من جامعة "إمبيريال كولج" أن حوالي 250 ألف نسمة قد يموتون بسبب الفيروس، إن لم تغير الحكومة خطتها.
بحجة "الظروف الخاصة"، وكما هو معهود في العالم العربي، قرر الإعلام البريطاني، بغالبية تلويناته، أن يدجّن نفسه بأن يتوقف عن المشاكسة، وهو الذي بنى سمعته على البحث عن المتاعب. تحوّل إلى إعلام إرشادات على شاكلة الإعلام التوعوي في تقديم المعلومات الأساسية والاستعانة بالخبراء، وهو أمر مهم للغاية، إلا إنه لا يكفي في وقت الأزمات، وفي ظل الغموض الكبير الذي يلف خطة الحكومة لمواجهة الوباء المتفشّي بسرعة كبيرة التحذيرات من خطورتها. نسي هذا الإعلام أن مهمته الأساسية المساءلة والتحرّي والتحقيق، بما في ذلك طرح الأسئلة التي تزعج بما فيه المصلحة العامة. قرّرت الحكومة أن تتبع خطة مخالفة لكل ما هو متبع في العالم، وقرّر الإعلام أنه يحق لبريطانيا التي تمرّدت على أوروبا أن "تستقل" أيضا عن نصائح منظمة الصحة العالمية وأوروبا والعالم، لتتبنى مفهوم المناعة الجماعية، وترفع عدد الإصابات، عوضا عن خفضها، من دون مساءلة تذكر.
أسئلة حاسمة يتفاداها الإعلام، أو يتعامل معها بنعومة، كما لو أنها من "المحرّمات" التي 
لطالما سخر الغرب منها في نظرته إلى إعلامنا التلميعي في خدمة الأنظمة. ماذا يعني أن تقرر الدولة أن تختبر مناعة شعبها بما يعني التضحية بمئات ممن لن يسعفهم النظام الصحي؟ ماذا يحصل في أروقة المنظومة الصحية العامة، وهل هي بالفعل جاهزة للتحدّي الرهيب المقبل؟ لم تصرّ الحكومة على تفادي فرض حجر صحّي للجميع، خصوصا للفئات الأكثر هشاشة، في حين تكرّر أن المنظومة الصحية العامة لن تتمكن من المقاومة؟ هل يقود الخطة الحكومة الحرص على الاقتصاد أم الأرواح؟ ما هي الأسباب وراء الوفاة السريعة للمرضى المتوفين، وكيف التقطوا العدوى؟ على أي أساس سيتم اختيار من يتلقى العلاج، في حال بلغنا حالة القمة في الإصابات، وهل لدى الحكومة خطة فعلية لمواجهتها؟
في حين أكتب هذه الكلمات، يصل عدد الضحايا إلى 233 قضوا بالفيروس لم تكشف الحكومة عن سبب وفاتهم، والعدد إلى تزايد. قريبا نتحول إلى أرقام لا معنى لها. أشعر أنني غير قادرة على الكتابة أو أي نشاط آخر. أسمع صفير سيارة الإسعاف، بعدما أصبحت زعيقا معتادا في يومياتي. صوت الإسعاف أصدق إنباء من وسائل الإعلام.
A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.