صوت العرب في لندن (1/2)

صوت العرب في لندن (1/2)

14 ابريل 2020
+ الخط -
قبل أن يكتمل مرور عقد على العدوان الثلاثي على مصر والذي قادته بريطانيا في عام 1956 بالاشتراك مع فرنسا وإسرائيل، وبعد سنوات طويلة من الحرب السياسية والإعلامية بين مصر وبريطانيا، قرر جمال عبد الناصر في منتصف الستينات أن يقوم بتهدئة الصراع مع بريطانيا، ويسعى لتحسين العلاقات معها، واختار أن يتم ذلك من خلال قناة نيابية يمثلها بعض أعضاء مجلس الأمة الذي كان أنور السادات وقتها رئيساً له، وكان سيد مرعي وزير الزراعة السابق وكيلاً له.

كان عبد الناصر قد استعان بسيد مرعي في عام 1965 لتمثيل مصر في مفاوضات صعبة مع شركة جنرال إليكتريك الأميركية للاتفاق على بناء محطة نووية لتحلية مياه البحر في مصر، وكان سيد مرعي قد حمل عرض أحد ممثلي الشركة إلى عبد الناصر فاهتم به بشدة، ولكي لا يتسرب خبر المفاوضات إلى أجهزة الإعلام، ادعى سيد مرعي أنه مسافر لإجراء فحوص طبية على القلب، كان عبد الناصر يأمل أن يؤدي تنفيذ ذلك العرض إلى تهدئة التوتر المتصاعد مع الولايات المتحدة، لكن الأميركان كشفوا عن عدم جديتهم في تطبيق مشروع الاتفاق، فعاد سيد مرعي من مهمته بخفي حُنين طبقاً لتعبير سيد مرعي نفسه، ومع ذلك فقد أعجب عبد الناصر بقدرات سيد مرعي في التواصل والتفاوض، فطلب من السادات أن يكلفه بتشكيل وفد برلماني لزيارة بريطانيا.

حين استغرب سيد مرعي الفكرة، قال له السادات إن عبد الناصر شخصياً هو صاحب الفكرة التي تهدف إلى تحسين العلاقات مع بريطانيا بعد أن وصلت إلى أسوأ مراحلها بسبب حرب اليمن، وطلب منه أن يتصل بعبد الناصر ليخبره بما هو مطلوب من الوفد بالضبط، وحين اتصل سيد مرعي بعبد الناصر قال له إن هدف الوفد هو القيام بدور بعثة سلام إلى بريطانيا، وأن المطلوب هو الاتفاق مع البريطانيين على رد الزيارة بوفد مماثل، تمنى عبد الناصر أن يضم بين أعضائه وزيراً ليستقبله عبد الناصر، فيساعد ذلك الاستقبال الرسمي على تحسين العلاقات المصرية البريطانية.


في الجزء الثاني من مذكراته (أوراق سياسية) الصادرة عن المكتب المصري الحديث يروي سيد مرعي أنه اختار لعضوية الوفد النائبين فوزي السيد وبثينة الطويل، ولم يستقر على اسم العضو الثالث، وخلال تفكيره في أكثر من اسم، زاره في مكتبه مدير إذاعة صوت العرب الإذاعي الشهير أحمد سعيد، وطلب منه الانضمام للوفد المسافر إلى بريطانيا، لأنه يرغب في زيارة فتى من أسرته يعالج في لندن من شلل الأطفال، لأن إمكانياته المالية لا تسمح له بالسفر بعيداً عن وفد رسمي، ومع أن سيد مرعي كان يعرف أن صوت العرب "تقوم بمهمة إثارة الجماهير العربية ضد الوجود البريطاني في المنطقة وكانت له نداءات مشهورة ضد البريطانيين يقول فيها للجماهير العربية: اذبحوهم اقتلوهم أينما وجدتموهم"، إلا أنه نسي كل ذلك بسبب تأثره بالحالة الإنسانية للصبي المشلول، فقرر ضم أحمد سعيد إلى الوفد، مقدراً لأحمد سعيد أنه يعاني من ضيق الأحوال المالية، مع أن هناك دولاً كثيرة يهاجمها كل يوم عبر أثير صوت العرب كان يمكنها أن تشتريه وتسكت لسانه مقابل أن يحصل على الملايين، لكن سيد مرعي بعد أن كتب ذلك أو أملاه على من كتبه، لم يقل إن أحمد سعيد لم يكن في مقدوره أن يتبنى أصلاً موقفاً مخالفاً لموقف الدولة الرسمي، أو أن يسكت عمن تطلب منه الأجهزة المسئولة مهاجمتهم، فضلاً عن أن يقوم بمدحهم أو مهادنتهم.

أرسل سيد مرعي إلى السادات قائمة بأعضاء الوفد المسافر إلى لندن، فاتصل به السادات مستهجناً اختياره، واستدعاه إلى مكتبه ليلومه على اختيار أحمد سعيد الذي كان من أسباب تدهور العلاقات مع بريطانيا، وذكره بما كان يقوله أحمد سعيد من تحريض ضد الإنكليز، وكأنه كان يقوله من دماغه، فأخبره سيد مرعي عن تفاصيل الحالة الإنسانية التي حدثه عنها أحمد سعيد، فقال له السادات: وما دخلك أنت وما دخل مهمتك في هذا الموضوع؟ فقال له سيد مرعي إنه وعد أحمد سعيد وأعطاه كلمته، فسخر منه السادات وقال له: كلمة إيه ووعد إيه يا أستاذ، أنا رأيي إنك تستبعده إذا كنت حريصا على نجاحك في هذه المهمة، لكن سيد مرعي رفض أن يرجع في كلمته، ولكي يبرر موقفه قال إنه يمكن أن يستفيد من وجود أحمد سعيد في الوفد، وهو ما عارضه فيه السادات ورئيس الوزراء علي صبري الذي قال إن اشتراك أحمد سعيد في الوفد ضرب من الجنون، وأن الإنكليز سيعيدونكم على الطائرة نفسها التي ستصلون عليها، فرد سيد مرعي بأن الإنكليز قوم مهذبون، ولا أعتقد أنهم سيفعلون ذلك، فقال له علي صبري: "على العموم ذنبك على جنبك".

حين قرأت عرضاً للواقعة في كتاب الكاتب اللبناني فؤاد مطر (الصالح والطالح في الحكم)، تخيلت أنه ربما كان يبالغ بعض الشيء حين كتب أن سيد مرعي بمجرد أن صعد إلى الطائرة المتجهة إلى لندن، شعر أن اختيار أحمد سعيد لعضوية الوفد كان خطئاً، لكنني حين عدت إلى مذكرات سيد مرعي تأكدت من دقة ما نقله فؤاد مطر، ووجدت أن سيد مرعي يعترف بأنه أدرك فداحة خطأ أنه لم يستشر في القرار حافظ إسماعيل سفير مصر في بريطانيا، وحين وصل إلى لندن قال له حافظ إسماعيل إن مجيئ أحمد سعيد مصيبة كبرى، وأن البوليس البريطاني علم بوجوده، ولذلك أحاط الوفد بعدد كبير من رجال البوليس، واندهش حافظ إسماعيل حين علم أن عبد الناصر لم يفرض وجود أحمد سعيد في الوفد كما كان يظن، وأن سيد مرعي كان وراء قرار مجيئه، وحين بدأ المؤتمر الصحفي الذي عقد في استقبال الوفد، التف مراسلو الصحف والإذاعات والتلفزيون البريطاني حول أحمد سعيد ليوجهوا له سيلاً من الأسئلة المستفزة، على رأسها سؤال عن الذي استفاده كإعلامي من الدعوة إلى ذبح وقتل البريطانيين أينما وجدوا، ولم يقل لهم أحمد سعيد إنه عبد المأمور وكان ينفذ تعليمات المسئولين عنه، بل التزم باتفاقه مع سيد مرعي على ألا يجيب على أي سؤال مهما استفزه، وأن يقول للجميع إنه ليس رئيس الوفد، وأن أي سؤال يجب أن يوجه إلى سيد مرعي شخصياً.

لم يكن غريباً أن تصدر الصحف البريطانية في اليوم التالي وقد نشر أغلبها صوراً لأحمد سعيد مصحوبة بعناوين مثل "القاتل المصري يتحدى الإنكليز في أرضنا ـ اطردوا هذا القاتل من أرضنا ـ الوفد المصري يضم المحرضين على قتل الإنكليز"، وحين سأله حافظ إسماعيل عن رأيه فيما قرأه، قال له "أنا متضايق جداً ومقدر للموقف ولكن ليس بيدي شيء أفعله، فلقد وقعت الكارثة وانتهى الأمر"، ولأنه كان ينتظر ترحيل الوفد على أول طائرة، فقد قرر أن يستكمل البرنامج المتفق عليه ويذهب مع أعضاء الوفد ومن بينهم أحمد سعيد إلى لقاء رسمي مع مايكل ستيوارت وزير الدولة للشؤون الخارجية، برغم أن حافظ إسماعيل نصحه بألا يفعل ذلك، وحين بدأ اللقاء مع الوزير البريطاني، لم يقم بتحية أعضاء الوفد كما هو مفترض، بل فتح ملفاً وأخذ يقرأ منه متطلعاً إلى أحمد سعيد قائلاً: "مستر سعيد في يوم كذا قالت إذاعة صوت العرب كذا ضدنا وفي يوم كذا قلت أنت كذا وكذا وكذا"، فشعر سيد مرعي بالغضب لأنه تم تجاهله وتم التعامل مع أحد أعضاء وفده كما لو كان خاضعاً للتحقيق، فخبط على مكتب الوزير بحدة وقال له: "يبدو أنك نسيت أنني رئيس الوفد، ومن باب اللياقة أن توجه كلامك إلى رئيس الوفد، ونحن لم نأتِ هنا لكي تحقق معنا أو تحقق حكومتك معنا، ونحن نعرف ما قاله أحمد سعيد وما قالته إذاعة صوت العرب، وبهذا الشكل لن تكون هذه البعثة بعثة سلام، وأنا أشعر أنني لن أستطيع التفاهم معك، ولذا أعتبر أن المناقشة قد انتهت".

....

نكمل غداً بإذن الله
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.