صنوف المتمجّدين في ركاب المستبدّين

صنوف المتمجّدين في ركاب المستبدّين

10 ابريل 2020
+ الخط -
يبدو أنه ستكون لنا وقفات حول تدبر المعاني المختلفة والآثار الخطرة لشبكة المتمجدين التي أشار إليها عبد الرحمن الكواكبي في الفصل المهم الذي خصّه، في كتابه "طبائع الاستبداد ..." للحديث عن المجد والتمجّد، المجد الأصيل والتمجّد البائس المزيف؛ ذلك أن التمجّد ليس إلا قناعا زائفا يخفي به المتمجّد طالب السلطة هوانه المريع، ووهنه البادي للجميع، والتمجّد باعتباره طلبا للمجد من غير منابعه، وفي غير مواضعه، فهو المنكشف المفضوح الذي يحاول إخفاء مهانته، وزيف فعله وفساد مقصده في سعيه وحركته؛ للمتمجّدين صنوف عديدة وأقنعة كثيرة وأدوار حقيرة كلها تمالئ المستبد، وتسير في خدمة طغيانه وظلمه. "الحكومة المستبدّة .. مستبدّة في كل فروعها، من المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفراش، إلى كناس الشوارع، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقاً، لأن السفلة لا يهمهم طبعاً الكرامة وحسن السمعة، إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته، وأنصار لدولته، وشرهون لأكل السقطات من أيٍ كانت، ولو بشراً أم خنازير، آباءهم أم أعداءهم، وبهذا يأمنهم المستبد ويأمنونه، فيشاركهم ويشاركونه؛ وهذه الفئة المستخدمة يكثر عدُدها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته؛ فكلما كان المستبد حريصاً على العسف، احتاج إلى مزيد الدقة في اتخاذهم من أسفل المجرمين الذين لا أثر عندهم لدين أو ذمة، واحتاج لحفظ النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة، وهي أن يكون أسفلهم طباعاً وخصالاً أعلاهم وظيفة وقرباً.. ومن ثم فالمستبد، وهو من لا يجهل أن الناس أعداؤه لظلمه، لا يأمن على بابه إلا من يثق به أنه أظلم منه للناس، وأبعد منه عن أعدائه". 
ومن صنوف المتمجدين هؤلاء المخادعون الذين يضطلعون بأدوار التبرير والتغرير للأمة وجماهيرها، لمصلحة المستبد ضمن صناعتهم الكبرى صورة زائفة ومزورة للمستبد واستبداده؛ المتمجد ووظيفته هي التبرير والتمرير والخداع والتغرير والتزييف والتزوير، وهو يقوم بتلك 
الوظيفة وذلك الدور فإنه في الحقيقة "يتقلّد.. سيفاً من قِبَل الجبارين، يبرهن به على أنَّه جلاد في دولة الاستبداد.. ويصير.. مستبداً صغيراً في كنف المستبدِّ الأعظم"؛ يعمل في خدمته ويسير في ركابه، ذلك أن التمجُّد تختص به الإدارات الاستبدادية، فإنهم أي "المتمجِّدون يريدون أن يخدعوا العامة...، بل على تغليط أفكار النّاس في حقِّ المستبدِّ وإبعادهم عن اعتقاد أنَّ من شأنه الظلم".. و "ما يقصده المستبدُّ من إيجادهم والإكثار منهم، ليتمكَّن بواسطتهم من أن يغرِّر الأمة على إضرار نفسها تحت اسم منفعتها.."؛ وغاية الأمر "أنَّ المستبد يتّخذ المتمجّدين سماسرة لتغرير الأمة باسم خدمة الدين، أو حبّ الوطن، أو توسيع المملكة، أو تحصيل منافع عامة، أو مسؤولية الدولة، أو الدفاع عن الاستقلال، والحقيقة أنَّ كلّ هذه الدواعي الفخيمة العنوان في الأسماع والأذهان ما هي إلا تخييل وإيهام يقصد بها رجال الحكومة تهييج الأمة وتضليلها، حتى إنَّه لا يُستثنى منها الدّفاع عن الاستقلال؛ لأنّه ما الفرق على أمةٍ مأسورة لزيد أن يأسرها عمرو؟ وما مثلها إلا الدّابة التي لا يرحمها راكبٌ مطمئن، مالكاً كان أو غاصباً"، ها هو وضع هؤلاء الصنف من المتمجدين "سماسرة لتغرير الأمة"، وصنعتهم الرضا الكاذب وتمرير القبول الزائف والمزور، فلا المستبد ولا المتمجدون ممن هم في خدمته يهتمون بإرادة شعوبهم على الحقيقة، بل صنعتهم تزويرها من كل طريق، وهم يتحدثون باسم إرادة الشعب ليل نهار، ويزهقونها وهم يتاجرون بها ويخادعون.
ويتخذ المستبد من صنف آخر من المتمجدين زينته الخادعة "المستبدُّ لا يستغني عن أن يستمجد بعض أفراد من ضعاف القلوب الذين هم كبقر الجنة لا ينطحون ولا يرمحون، يتّخذهم كأنموذج البائع الغشاش، على أنّه لا يستعملهم في شيءٍ من مهامه، فيكونون لديه كمصحف في خمّارة أو سبحة في يد زنديق، وربما لا يستخدم أحياناً بعضهم في بعض الشؤون تغليطاً لأذهان العامة في أنَّه لا يعتمد استخدام الأراذل والأسافل فقط، ولهذا يُقال: دولة الاستبداد دولة بُلهٍ وأوغاد"، وحتى يصنع تلك الصورة الزائفة، فإن "المستبد يجرِّب أحياناً في المناصب والمراتب بعض العقلاء الأذكياء أيضاً اغتراراً منه بأنّه يقوى على تليين طينتهم وتشكيلهم بالشّكل الذي يريد، فيكونوا له أعواناً خبثاء ينفعونه بدهائهم، ثمَّ هو بعد التجربة إذا خاب ويئس من إفسادهم يتبادر إبعادهم أو ينكّل بهم. ولهذا لا يستقرّ عند المستبدّ إلا الجاهل العاجز الذي يعبده من دون الله، أو الخبيث الخائن الذي يرضيه ويغضب الله"، فلا يمنع المستبد من أن يتخذ من بعض هؤلاء ستارا حاجبا أو قناعا مموها يستر به بعض سوءاته وسيئاته.
والكواكبي يعبر في تصوير عميق ودقيق لبعض هذه الحيل من المستبدين، فاضحا إياها بعمق 
تشريحه وإدراكه هذه الألاعيب الخفية والذكية من بعض عتاة المستبدّين، فيما يعرف من أنماط الاستبداد الحريري المتخفي والمستور في قبالة الاستبداد الحديدي الفاجر والظاهر والغشوم؛ فيقول "وهنا أنبِّه فكر المطالعين إلى أنَّ هذه الفئة من العقلاء الأمناء بالجملة، الذين يذوقون عسيلة مجد الحكومة، وينشطون لخدمة ونيل مجد النّبالة، ثمَّ يضرب على يدهم لمجرَّد أنَّ بين أضلعهم قبسة من الإيمان، وفي أعينهم بارقة من الإنسانية، هي الفئة التي تتكهرب بعداوة الاستبداد، وينادي أفرادها بالإصلاح. وهذا الانقلاب قد أعيا المستبدين؛ لأنهم لا يستغنون عن التجربة ولا يأمنون هذه المغبّة. ومن هنا، نشأ اعتمادهم غالباً على العريقين في خدمة الاستبداد، الوارثين من آبائهم وأجدادهم الأخلاق المرضية للمستبدّين. ومن هنا، ابتدأت في الأمم نغمة التمجّد بالأصالة والأنساب، والمستبدّون المحنّكون يطيلون أمد التجربة بالمناصب الصغيرة، فيستعملون قاعدة الترقّي مع التراخي، ويسمّون ذلك برعاية قاعدة القدم، ثمّ يختمون التجريب بإعطاء المتمرّن خدمةً يكون فيها رئيساً مطلقاً ولو في قرية، فإن أظهر مهارة في الاستبداد، وذلك ما يسمونه حكمة الحكومة فبها نعمت، وإلا قالوا عنه: هذا حيوان، يا ضيعة الأمل فيه".
ومن حيل المستبد وخفاء خُدعِه وخداعه بحثه عن صنفٍ من طالبي السلطة ممن يعرفون بالأصلاء، ولكنهم من الباحثين عن التمجد لا المجد، فيستميلهم ويجعلهم عونا له في استبداده 
وطغيانه، ذلك "إنَّ للأصالة مشاكلة قوية للمجد والتمجّد.. وبيوت الأصالة تنقسم إلى ثلاثة أنواع؛ بيوت علم وفضيلة، وبيوت مال وكرم، وبيوت ظلم وإمارة. وهذا الأخير هو القسم الأكثر عدداً والأهمّ موقعاً، وهم .. مطمح نظر المستبدّ في الاستعانة وموضع ثقته، وهم الجند الذي تجتمع تحت لوائه بسهولة، وربما يكفيه أنْ يضحك في وجههم ضحكة (حتى يستميلهم).. ومن أكبر مضارّ الأصلاء أنهم ينهمكون في أثناء المغالبة على إظهار الأبَّهة والعظمة، فيسترهبون أعين الناس ويسحرون عقولهم ويتكبّرون عليهم. ثمَّ إذا غلب غالبهم، واستبدَّ بالأمر لا يتركها الباقون لألفتهم لذتها ولمضاهاة المستبدِّ في نظر الناس. والمستبدُّ نفسه لا يحملهم على تركها، بل يدرُّ عليهم المال ويعينهم عليها، ويعطيهم الألقاب والرُّتب، وشيئاً من النّفوذ والتسلُّط على الناس، ليتلهّوا بذلك عن مقاومة استبداده، ولأجل أن يألفوها مديداً، فتفسد أخلاقهم، فينفر منهم الناس، ولا يبقى لهم ملجأ غير بابه، فيصيرون أعواناً له بعد أن كانوا أضداداً". إنها شبكة الخداع التي يصطنعها الاستبداد والمستبدون سواء لخداع الشعوب بسياساتهم التي تزور كل شيء وتمكن لكل مسالك الرضا الزائف أو من خلال توظيف شبكة المتمجدين في خداع الجماهير والشعوب، عملية خداع كبرى يمارسها الاستبداد وأدواته ليمكن لحال الاستبداد ويحكم قابلياته؛ ليست كل هذه الأصناف المذكورة من المتمجدين.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".