صلاح عيسى يروي ذكريات حبسة سبتمبر (2)

صلاح عيسى يروي ذكريات حبسة سبتمبر (2)

18 سبتمبر 2018
+ الخط -
يواصل الكاتب الكبير صلاح عيسى شهادته المهمة على أحداث أكبر حملة اعتقالات وقعت في مصر، ليس في عهد الرئيس السادات فقط بل وفي القرن العشرين، والتي ضمت لأول مرة كافة رموز مصر من مختلف الاتجاهات والتيارات والمهن والأعمار، ويتحدث في هذه الحلقة عن تجربة مجلة (الزنزانة) التي أصدرها المعتقلون داخل السجن.

ـ على عكس ما توقعه الكثيرون، لم تتم معاملتكم بشكل سيئ بعد اغتيال السادات، بل على العكس تحسنت المعاملة بشكل تصفه أنه غير مسبوق في تاريخ الداخلية، كيف حدث ذلك، وما تفسيره في رأيك؟
أعتقد أن ذلك وراءه إحساس كان موجوداً لدى أغلب رجال السادات أن ما حدث كان خطأً بكل المقاييس، وأن توسع حملة الاعتقالات إلى هذا الحد كان ورطة على الكل أن يبادر للتنصل من مسئوليته عنها، وأول مبادرة كانت تحسين المعاملة على الفور، في الوقت الذي كان يتم التعامل فيه بقسوة شديدة مع من كانوا موجودين خارج السجن وقت اغتيال السادات حتى لو لم يكن لهم ارتباط مباشر بما حدث.

كان قد تم تعيين اللواء فؤاد علام مساعداً لحسن أبو باشا الذي كان قد عين مديراً لمباحث أمن الدولة بعد اغتيال السادات، رغم أن وزير الداخلية النبوي إسماعيل كان "راكن" أبو باشا ومضطهده هو ومجموعة من الضباط الذين كانت لهم خبرة في موضوع الجماعات الإسلامية، المهم جاءنا فؤاد علام في السجن بعد موت السادات والتقى بنا، والمرحوم الدكتور فؤاد مرسي المفكر الاقتصادي الشهير هاجمه هجوماً عنيفاً، لأننا كنا نسمع أصوات الصرخات الآتية من السجن القريب منا، والذي كان يتم فيه تعذيب أعضاء الجماعات الإسلامية، وبعد مناقشات عنيفة قال فؤاد علام لنا: أنا عندي تعليمات من القيادة السياسية إني آتي لأطمئنكم، وستخرجون قريباً ونحن حريصون على حسن معاملتكم وتحت أمركم، المهم قعدنا نضحك وقررنا ننتهز الفرصة التي ربما لا تأتي مرة ثانية ونطلب مطالب عجيبة كان منها إننا عاوزين الزيارات يبقى مسموح بيها كل يوم، ووصلت الحكاية إلى درجة أن أحدنا قال لفؤاد علام: عاوزين نتكلم في التليفون، واعتبرنا الموضوع نكتة لكننا فوجئنا بالموافقة على الطلب في نفس اليوم، وفوجئنا بمدير السجن الذي كان يرفض كل طلباتنا على مدى 3 أسابيع، مهما كانت مشروعة وقانونية، نلاقيه بمنتهى الأدب يخرج من مكتبه بين الحين والآخر لينادي "يا أستاذ فلان.. تليفون.. البيت طالبك"، وطبعاً في البداية كنت تسمع أصوات الضحكات تتعالى من كل مكان، لغاية ما تعودنا على الوضع الجديد.

ووصل الموضوع إلى أن زميلنا سمير تادرس الصحافي في "أخبار اليوم"، راح مرة طلب مصطفى أمين في التليفون، فسأله مصطفى أمين: إنت بتتكلم منين؟ قال له: من السجن، قال له: ده هزار ولّا جد؟ ومين اللي سمح لك تتكلم في التليفون من السجن، طبعاً مصطفى أمين بوصفه سجيناً سابقاً ارتاب في الموضوع، خاصة أن سمير تادرس أخذ في نفس المكالمة يشكو له من سوء المعاملة في السجن، فقال له مصطفى أمين: أنت بتتكلم في التليفون وتشكو من سوء المعاملة. ضحكت طبعاً لما حكى لي سمير الحكاية، وقلت له: "يا سمير إنت فكرتني مرة واحنا محبوسين سنة 69، مجموعة من زملائنا في سجن قنا قاموا بتهريب كاميرا جوه السجن، وقعدوا يصوروا بعض في جنينة السجن، وبعثوا الصور إلى الخارج، فلما عرفنا في سجن طره قعدنا نضحك وبعثنا نقول لهم: طيب ليه بتتصوروا في الجنينة، ما لقيتوش غير الجنينة، ما تتصوروا في الزنازين اللي حالتها كرب ولا في الحمامات اللي منظرها مقبض، الحكومة كده هتستغل الصور دي دعاية عشان تقول للناس إننا عايشين جوه السجن أحسن عيشة".

وردة حمراء لهيكل!

ـ في السجن، وكما أوضحت من قبل، كانت هناك مستويات اجتماعية متباينة، بالتأكيد حصلت مفارقات عديدة بسبب اختلاف الظروف الاجتماعية والاقتصادية، ممكن تكلمنا عنها؟

اليساريون بحكم الخبرة والتجارب السابقة، كان لهم نظام في السجون مختلف عن الباقين، اليساريون عادة في السجون يعيشون حياة عامة مع بعضهم، تقدر تقول بشكل أو بآخر أنهم يصادرون كل ما يصل إليهم من أموال وطعام من الخارج ويتم تشكيل لجنة لتعيد توزيعه بالقسطاس، كل حسب قدراته ولكل حسب حاجته، حتى في السجائر كان يحدث ذلك لكن في هذه الحبسة كانت المسألة غريبة في الفترة الأولى، يعني في أول 3 أيام سمحوا لنا بأكل من البيت ثم منعوا الآكل ولم تحدث مشكلة لأننا عشنا على أكل بعضنا.

بالنسبة للآخرين، يعني مثلاً فؤاد سراج الدين في النهاية رجل فلاح مهما كانت درجة غناه، ولذلك يمكن أن يتعود على هذا النوع من الحياة دون صعوبات كبيرة، وكذلك الأستاذ هيكل تصرف بشكل لطيف مع الآخرين، الأكل المقرر في السجن كان فول وعيش كل يوم وكل ثلاثة في زنزانة بياكلوا مع بعض، ومهما كان في عناية بالأكل، لكن يظل أكل سجن، بعد قليل اتعملت بعض الخدمات الإضافية يعني أكل طبي لمن لديه سكر أو قرحة في المعدة فبدل أكل السجن كانوا يجيبوا له لبن وسكر وفاكهة، ثم سمحوا لنا أن نشتري من أماناتنا ما نريده من أكل، لكن ظلت الزنازين مغلقة طوال الـ 24 ساعة ما عدا نصف ساعة صباحًا ونصف ساعة بعد الظهر، والزنازين عاملة زي أقفاص جنينة الحيوانات، نرى بعضنا منها ونتكلم لكن طوال الوقت محبوسين.

ـ بمناسبة الكلام عن الأكل، هل صحيح ما كانت تنشره صحف الحكومة أن هناك مساجين مثل محمد حسنين هيكل كانت تأتيهم طلبات خاصة، أطعمة مستوردة من الخارج وسيجار وأشياء من هذا القبيل؟
لا، هذا الكلام غير صحيح، بالعكس الشيء الثابت الذي كان يصل إلى هيكل كل يوم وردة حمراء من السيدة زوجته، وبعد تحسن الأوضاع كان يأتي إلى السجن أكل بكميات كبيرة تكفينا جميعًا لأن كل يوم كانت تأتي 5 أو 6 طرود زيارة بحيث لو جمعتهم على بعض ممكن كل الناس تأكل مع بعضها، وفي النهاية نضع كميات الأكل التي تفيض في إحدى الزنازين، خاصة أنه كانت تأتينا كميات أكل من أسرنا ومن الأحزاب. بعض الصحف نشرت أن هيكل طلب مياها معدنية، لكن هذه الواقعة لم تحدث، لكن أنا لم أحس في تصرفات هيكل أو سراج الدين أو غيرهما من الكبار بأي نوع من التعالي.

هنا الزنزانة!

ـ طيب، ما هي حكاية مجلة "الزنزانة"؟
قررنا عمل مجلة إذاعية اسمها "الزنزانة"، وطبعاً كنا متأكدين أنها ستكون تحت الرقابة الأمنية، لكن لم نكن نتصور أن يحدث ما علمناه بعد ذلك من بعض الضباط، وهو أن الإذاعة كان يتم تسجيلها ونقلها لأنور السادات بانتظام عن طريق إدارة السجن، واتضح أن السادات لم يكن مهتماً بالمساجين بشكل عام ولكن كان اهتمامه بالتحديد مركزا على أشخاص معينين يريد أن يسمع عنهم أنهم انهاروا وهم محمد عبد السلام الزيات، وهيكل، وفؤاد سراج الدين، هؤلاء الثلاثة الكبار الذين كان السادات يكرههم شخصياً، بالإضافة إلى خصوم آخرين كان بعضهم وزراء في بدايات عهده مثل د. فؤاد مرسي رحمه الله ود. إسماعيل صبري عبد الله، ومحمد فايق، وفريد عبد الكريم.

كنت قد اقترحت فكرة المجلة الإذاعية على فؤاد باشا، بعد أن ظللت معه لمدة 4 أيام أسأله عن وقائع تاريخية، وأسأل محمد عبد السلام الزيات عن وقائع أخرى، وكانت وراء أسئلتي رغبة في المعرفة التاريخية، لكن أيضاً هروب من ملل الظلام ووحشته، لأن النور كان يتم قطعه طول الوقت، كنا في زنزانة رقم 14، فكنت تلاقي بعض من في الزنازين الأخرى ينادوننا: "يا زنزانة 14.. انتو فين؟"، أرد عليهم: "إحنا في ثورة 19 مش معاكم دلوقتي"، المهم بعد هذه الليالي المظلمة المليئة بالحكايات التاريخية، وبعد ما اكتشفت موهبة الحكي لدى فؤاد باشا، عرضت عليه منصب رئيس تحرير المجلة الإذاعية، فقال لي: لا أنا سأكون المحرر الرياضي باعتباره من كبار وقدامى مشجعي النادي الأهلي، وأنت تكون رئيس التحرير وبدأنا نخطط للمجلة، وقررت أن أستثمر وقت الإعداد للمجلة بإني أعمل دعاية للمجلة على طريقتي الخاصة، كل يوم "اتشعبط" في باب الزانزنة واقعد أقول: "ترقبوا.. يوم السبت تصدر مجلة الزنزانة.. أخبار مثيرة.. تحقيقات جريئة".

ثم اتفقت مع الأستاذ هيكل على أن أجري معاه حديثاً على الهواء واتفق معي على ألا تكون هناك أسئلة في السياسة، يعني أسئلة في الصحافة والفكر والأدب، طبعاً لأنه كان يعرف أن كل ما سيقوله مذاع على الهواء مباشرة لرئاسة الجمهورية، كما قدمنا في المجلة تحقيقاً صحافياً إذاعياً فريداً من نوعه عنوانه: "فيم تفكر الآن على الهواء"، وطبعاً يتم توجيه السؤال من مقر الإذاعة في زنزانة رقم 14 إلى مساجين الزنازين الأخرى، وعلى كل مجيب أن يراعي الهندسة الإذاعية وهو يجيب على السؤال، من الفقرات الثابتة والناجحة كانت هناك فقرة "رسالة إلى الخارج" وصفحة الإعلانات، والتي كانت تجد إقبالاً كبيراً بين المساجين الراغبين في مبادلة أشياء لديهم بأشياء هم في حاجة إليها، وطبعاً كلها أشياء بمقاييس السجن مهمة جداً: موس حلاقة ـ إبرة خياطة ـ علبة كبريت، وهكذا. واستمرت الدعاية لمدة 3 أو 4 أيام، وأعتقد أنه كان من الذكاء البالغ أن فؤاد باشا يصر على تقديم نفسه في الدعاية بوصفه المحرر الرياضي لكي لا يكون هناك تحفز من أحد، بالعكس كان هناك انتظار وترقب للمجلة.

رسالة إلى الخارج

للأسف حدث قبل صدور المجلة بساعات أن صدر قرار بنقل الزيات من السجن إلى المستشفى، فقد كان عنده جلطة في القلب، وكان قلقًا جدًا على حالته، وكان لديه إحساس بأن السادات يريده أن يموت، وأن يقتله لأن السادات كان قد قال أكثر من مرة أنا سأقتله، وكانوا قد وضعوا قبل اعتقاله تسجيلات في بيته لمدة سنة لتسجيل كل ما يدور من أحاديث بينه وبين من يتجمعون في بيته من شخصيات عامة وكلهم مثقفون وكتاب ليس لديهم أسرار خطيرة، ويتحدثون في ما يجري في البلد مثل غيرهم، لكن السادات قرر أن ينتقم من الزيات بالذات، لأنه بعد أن ترك الحكم أصبح رئيساً لجمعية الصداقة المصرية السوفيتية وهي خطوة اعتبرها السادات تحدياً له، ولذلك كان لا بد أن يتم اتهام الزيات في قضية تجسس، ومن هنا كان اتهامه في قضية التفاحة الشهيرة التي صرفوا عليها أموالاً طائلة لتسجيل كل هذه المحادثات ثم تفريغها، وبعد كل ما صرفوه من أموال، اتضح أن كل التسجيلات عادية ولم تستطع النيابة أن تجد شيئاً واحداً يدين الزيات ولا من معه، لكن إلى أن حدث ذلك، كانت كل الصحف الحكومية قد اتهمت الزيات والمقبوض عليهم في القضية بالخيانة العظمى والتخابر مع الاتحاد السوفيتي.

من الأمور التي أذكرها وتأثرت بها جداً أن الأستاذ محمد عبد السلام الزيات وهو في عز مرضه، وقبل أن ينقل إلى المستشفى، كان قلقاً جداً على الأديبة الدكتورة لطيفة الزيات شقيقته التي كانت معتقلة في سجن النساء، ولا يكف عن رجاء كل من حوله بأن يطمئنوا عليها ويرسلوا لها السلام منه، لأن السادات خلاص سيقتله، المهم عندما جاؤوا من إدارة السجن ليطلبوا ترحيل الزيات إلى مستشفى قصر العيني رفض، وسألته عن السبب فقال أنه يحس بالاطمئنان وسطنا وأنه لو ذهب هناك لا يعرف ماذا سيفعلون به، وقعدنا نناقشه أنا وفؤاد سراج الدين ونقول له قد يكون ما لديك هواجس وتكون محتاجاً بالفعل لرعاية طبية، ولو حدث لك هنا لا قدر الله أي أزمة لن نستطيع أن نفيدك، المهم أنهم أخذوه بالفعل بعد عدة ساعات وأصيب الرجل باكتئاب، وبعد أن كان مقرراً أن تكون المجلة الإذاعية خفيفة في موادها قررنا أن تكون ساخنة جداً، وبدأت بثها بافتتاحية شديدة السخونة أخذت ألقيها على باب الزنزانة، وفؤاد سراج الدين عمال يقول لي مستنكراً: "ما هذا الذي تقوله"، لأن ما كنت أقوله بالطبع كان سيتسبب في التنكيل بنا جميعاً كمساجين، والحقيقة أنني كنت أشعر بالقهر كأنهم أخذوا أبي المريض الذي عنده حالة خطرة في القلب والذي اقترب من السبعين بعيدًا عني بينما هو يقول أنا مطمئن وسطكم خاصة أنه كان مطمئناً لي بشكل خاص وكان يعاملني كابن له.

عندما جئنا لنقدم فقرة رسالة إلى الخارج، تذكر المعتقلون أهاليهم وبدأوا يقولون رسائل حزينة، والعملية قلبت غم وأحزان، ومع ذلك فؤاد سراج الدين التزم بدوره وقال التحليل الرياضي للمجلة كمادة خفيفة، وعملنا الحديث مع هيكل، ولما وصلنا إلى آخر فقرة أو آخر صفحة بحثت عن أبيات شعر فلم أجد سوى أبيات شعر شهيرة قالها الشاعر الكبير حافظ إبراهيم رحمه الله في عهد ديكتاتورية إسماعيل صدقي في الثلاثينيات جاء فيها:

"ودعا عليك الله في محرابه.. الشيخ والقسيس والحاخام"، فقال لي المحامي الكبير محمد صبري مبدي هاتفًا من زنزانته: "بس الحاخام ما بيدعيش عليه يا صلاح"، فقلت له ضاحكاً "معلهش بقى القافية تحكم". طبعاً في اليوم التالي حققوا معي ونقلوني بعد التحقيق إلى زنزانة تأديب، فأضربت عن الطعام، وأنا في طريقي إلى الزنزانة كان هناك عميد اسمه محمد علي، وكان الرأس الكبير لمباحث أمن الدولة، فراح وأخذني في سيارته وقال لي "انتو مش هتعقلوا، انتو مش عارفين أن الكلام اللي انتو بتقولوه ده كل حاجة فيه بتوصل فوق"، قلت له: "وإحنا عملنا آيه، هل الشعر ممنوع"، ثم والله العظيم قلت له ما يكاد أن يكون نبوءة، أو هو اعتبره نبوءة، قلت له بنبرة فيها مداعبة لأنه كان لا يزال برتبة عميد: "شوف يا سيادة اللواء هذه الحبسة بمنظرها هذا لابد سيموت أحد بسببها، يعني أنا شاب واتحمل لكن في ناس لن تتحمل ما يحدث"، ووقتها لم يكن عبد العظيم عبد العطا قد توفاه الله، لكن كنت شايفهم وهم جايبين نقيب المحامين السابق وأحد كبار المحامين في تاريخ مصر عبد العزيز الشوربجي من المستشفى وهو في حالة صحية سيئة، أنا عندما جئت في بداية الحبس وضعوني في زنزانة تحت السلم، وجاء هو بعدي مباشرة، ورأيته وهم شايلينه شيل إلى الزنازنين اللي فوق، كان عبد العزيز محمد نقيب محامي القاهرة الآن يحمله لكي يصعد السلالم، وكان مصابًا بالسكر والقلب والضغط وأخذوه إلى السجن من فراش المرض، ولما رأيته دمعت عيني وأنا أقف تحت السلم، وشعرت بقهر شديد جدًا وأنا أراهم يأتون برموز البلد وشخصياته الكبيرة، والتي حتى لو تعودت في شبابها على معاملة مثل هذه فلا ينبغي أن تعامل هكذا في كبرها، ولذلك قلت بانفعال للرجل: يا سيادة العميد هذه الحبسة لا بد سيموت فيها أحد، وهو ما حدث للأسف.

ـ بمناسبة الشخصيات الكبيرة كان معكم أيضاً الكاتب والمحامي والسياسي الكبير فتحي رضوان؟
بالضبط، كان أيضاً رجلاً كبيرًا جدًا وقتها لكنهم حبسوه برغم السن والمرض، وكان رجلاً هادئاً لم يعمل أي احتكاكات كما كان متوقعاً، رغم أنه بين الوفديين وبينه خناقة مستمرة، بل ودافع في إحدى القضايا عن رئيس تحرير "الأخبار" موسى صبري عندما شتم الوفد، كان رحمه الله يكثر من التحدث في الإذاعة ويتكلم عن شخصيات عاشرها في الحركة الوطنية مثل مصطفى الوكيل وغيره، وكان مليئاً بعواطف وطنية جارفة وكثيرا ما كانت تغلبه عاطفته فيبكي، وبرغم الخلاف السياسي الحاد، معاملته مع فؤاد سراج الدين كانت معاملة يسودها الاحترام، وكان فتحي رضوان رحمه الله اجتماعياً، وفي الفسح اليومية نشأت دوائر من الصداقات والعلاقات نلف باستمرار في ساحة السجن، بعد فترة سمحوا لنا بمقاعد لكي نجلس عليها.

في التأديب

في اليوم التالي عندما جاء قرار نقلي إلى التأديب، فؤاد سراج الدين تضايق جدًا لأنه سيصبح لوحده في الزنزانة خاصة وقد غادرها محمد عبد السلام الزيات قبلي بيوم، قلت له: "يا باشا أنا سأذهب إلى التأديب لكن لن أبقى طويلاً فيه لأني سأضرب عن الطعام، قال لي: "طبعاً لا، إياك تضرب عن الطعام"، كان معي مخلاة سأضع فيها الأشياء الضرورية في التأديب ملابس وأشيائي، يقوم واخذ تفاحتين وعلبة بلوبيف وبسكويت ويحطهم في المخلاة، أقوم أنا مطلّعهم برّه، يرجعهم هو تاني، أقول له: "يا باشا.. هذا أكلك الطبي وأنا مضرب عن الطعام ما ينفعش آكل تفاح وبلوبيف"، يقول لي: "مضرب إيه بس يا ابني، اعقل وخد، دول ولا هيسألوا فيك"، وهكذا ظللنا في هذا الموقف لفترة، وكان هذا مشهدًا مؤثرًا جدًا بالنسبة لي.

ـ كم يوماً ظللت في التأديب؟
حوالي عشرة أيام أضربت فيها عن الطعام، وكان وقتها لطفي الخولي والأستاذ محمد سيد أحمد يعيشان في باريس، وعن طريق أخ كان معنا في التأديب وتم استدعاؤه إلى المدعي العام الاشتراكي نجحنا في تسريب خبر إضرابي عن الطعام ووصل الخبر إلى زوجتي أمينة النقاش التي أوصلته إلى خارج مصر، وتم عمل حملة دولية للتضامن معي، ومحمد سيد أحمد جمع توقيعات من الكاتب الفرنسي الكبير جان بول سارتر وعدد من الأدباء العالميين الكبار، فوجدت نُصّ دستة من لواءات وزارة الداخلية تأتي إلى زنزانتي لتسألني عن طلباتي، وكان شرطي الوحيد أن أعود ثانية إلى زنزانتي العادية.

كان هناك سبب آخر لإضرابي عن الطعام هو أنني كنت محبوسًا وشقيقة زوجتي فريدة النقاش مسجونة وكذلك زوجها الكاتب حسين عبد الرازق، وكانت فريدة في سجن وأنا وحسين في سجن وكانت زوجتي أمينة النقاش ترعانا نحن الثلاثة، فلو ذهبت أنا في سجن ثالث سيكون ذلك متعباً جداً على أمينة، ولذلك كان طلبي الثاني عدم النقل من السجن. كان مضرباً عن الطعام معي السياسي الشاب وقتها حمدين صباحي، وعدنا سوياً إلى السجن، كل هذا كان قبل مقتل السادات.

- هل عدت ثانية إلى زنزانة فؤاد سراج الدين؟
لا، عندما عدت أنا وحمدين وضعونا في زنزانة سوياً، وبعد يوم وجدنا أن محمد عبد السلام الزيات رجع ثانية فأحضروه معنا، وظللنا نحن الثلاثة مع بعض وتحولت هذه الزنزانة إلى فرقة الشقاوة، أما فؤاد باشا فأعتقد أنه بقي وحيدًا في زنزانته، وبالمناسبة أذكر الآن المرحوم عبد الفتاح حسن، الذي كان وزيراً وفدياً معروفاً ومحامياً شهيراً وأحد ألمع المحامين الجنائيين في مصر وكان صديقاً لفؤاد سراج الدين لأن فؤاد تبناه واختاره وزيراً في حكومة الوفد سنة 1950، كان عبد الفتاح حسن فلاحاً داهيةً وكان يحب سراج الدين جداً، وكان في زنزانة مجاورة لنا مع أبو العز الحريري، ومعتقل ثالث من الناصريين نسيت اسمه الآن، في الأيام الأولى كان ممنوعاً علينا الكلام، ولما طلعنا الصبح لتنفيض البطاطين، وكانوا يخرجون كل زنزانتين معاً قال لي عبد الفتاح حسن همساً وهو متأثر جداً: "خلي بالك من فؤاد باشا"، قلت له: "عينيا يا باشا"، ولذلك كنت متضايق جداً لأنهم لم يعيدوني إلى الزنزانة مع فؤاد باشا، لكن كنت أطمئن عليه دائماً، المهم رجعنا ثانية مع عبد السلام الزيات في الزنزانة إلى أن سمعنا خبر اغتيال أنور السادات.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.