صغيرة تستعيد ذكرياتها... وبالغة تكتب

صغيرة تستعيد ذكرياتها... وبالغة تكتب

12 اغسطس 2018
+ الخط -
تأتينا هذه اللحظات التي نحنّ فيها لأن نسترجع بقعتنا الجميلة من الذكريات، فتأتي بنا فكرة العودة والدخول إلى عالم الجحر الأزرق، مسلطين الضوء على صندوق الحياة واليد متجهة نحو مذكرات لعام 2009.

في كل صفحة تقلبها كانت تستعيد الأيام التي كانت تجلس وتكتب فيها ما تكتب من أفكار ساذجة ومشاعر ممزوجة بالنقاء والضيق، تقرأ بكل صعوبة وهدوء، أحيانا يأتيها شعور الخوف والقلق على نفسها من مشاعر كادت ترهقها وتتعبها، وتبتسم ابتسامة السلام حين تقرأ جملاً لهذه الصغيرة مستدرجة بتساؤلاتها كيف لها أن تكتب بهذا الوصف العميق، فقررت محاولة استعادة بعض ما كتبته ومشاركته لكل من يرغب في القراءة بحب.

أنا إنسانة، بعيداً عن السياسة، العرق، الدين، الثقافة، العادات والتقاليد، الشكل، ما يخطر ببالكم، أنا إنسانة، تذكرت منذ صغرها عندما كانت تلعب في ساحة البيت بصحبة أصدقاء الطفولة. وطائرات الاحتلال كانت تحلق من فوقهم.. "ما يحلا لهم إلا يغنوا لها طيارة عربية تحت الجيش مضوية".


يغنوا! غير مدركين أن كلمات هذه الأغنية لا تنطبق تحديداً على هذه الطائرة، يعيدون ويكررون من دون اتصال وتواصل مع الواقع الحقيقي. "طيارة مرقت ولازم نغني لها"، وعندما بدأت السفر والتنقل من دولة إلى أخرى، كانوا يقولون لها: حين يسألونك من أين أنت؟ أجيبي أنك من فلسطين وليس إسرائيل، وإذا استدرجوك وقالوا لك من أين من فلسطين؟
أجيبيهم أنك من عرب 48 تعيشين في قرية عربية إلى جانب حيفا.

باللحظة التي تتكلم بما طلب منها، كان يستوحيها شعور التيه لكلام غير مقتنعة به، متمنية أن تكون خرساء، بأيام الماسينجر والدردشة، كان لديها أصدقاء غرباء من دول متعددة، عندما كانوا يشتركون الحوار ويتساءلون من هم عرب الـ48، لم تشعر باكتفاء أنهم فلسطينيو الأصل يعيشون تحت حكم إسرائيل.

كانت تدخل إلى غوغل مستعينة به كي تستطيع إرسال معلومات دقيقة ووافيه لتشعر بنصرها، قائلة "يا الله مصعبها.. كم صار عمري وثقافتي بحق وطني معدومة!".

عندما كان أصدقاؤها يتحدثون عن انتخابهم لرئيس الدولة وأماكن السياحة في دولهم وعن الثقافة التي تميزهم وتخصهم اتجاه وطنهم، يرافقها شعور الغيرة والتشتت، لماذا أنا عاجزة عن الإحساس بذلك، لماذا لا أرى! هل أنا عمياء رغم سلامة بصري! لماذا لا أشعر بالانتماء!

الصراعات التي بداخلها والتساؤلات التي لم تجد لها أجوبة، أو من الممكن أنها لم تكن من الأشخاص المستطلعين، منتظرة إجابة عن كل سؤال من الأشخاص الذين حولها، فهذا أدى بها إلى ضياع وعدم ثبات. أصبحت تشعر بأنها غريبة في وطنها.

حينها اتخذت قراراً بأن تتغلب على هذا الشعور وتغوص في أمواج الحياة بحثاً عن الانتماء،
فنحن ندرك أن الشعور المحزن والمخيب هو إنذار مبشر لابتكار أفكار نروي بها شجرة أمالنا.

وتطرقت أيضاً إلى حدث تأثرت به ويعني لها الكثير، ألا وهو عندما كان يأتي أصدقاء أبيها "أولاد عمنا" اليهود في زيارة إلى البيت بحكم صداقة العمل، تنتابها حاله من "الكريزه"، بكلمات أخرى تعني حالة من الطاقة السلبية التي تنشط وتزيد فعالية شد الأسنان واليدين.

الموضوع ليس في الحالة إنما في جدال حصل بين أبيها واليهودي حول برواز خريطة فلسطين المعلق على حائط المنزل، ولم يفكر أهل البيت نهائياً في إزالته حتى لو دخل رئيس الدولة بحد ذاته.

أصبح صراعها كالبركان خوفاً من أن يفعلوا بهم سوءاً، ما أثر على دراستها للغة العبرية في المدرسة.

أما بالنسبة إلى اللوحة الفنية المصورة في مخيلتها منذ طفولتها فهي ساعات جلوس والدتها على "البلكونة" برفقة القهوة وجريدة "الاتحاد"، مطيلة النظر إليها متأملة يديها وأصابعها المتشبثة بالجريدة، تطرح بعض الأسئلة بصوت داخلي "لماذا أنا لست مثلها؟"، كيف لها أن تجلس كل هذا الوقت تقرأ بمتعة وانغماس.

مع العلم أن والدتها دائما كانت تشجعها وتنصحها بالقراءة مع طرح أفكار وأساليب لتحببها بالقراءة. أما بالنسبة للصوت الداخلي الذي كان قريبا منها في كل مرة فقد اكتشفت أنه هو المحتل، محاولاً اقتحام جذورها في معتقدات بدت أن تتعلم وتستفيد منها متأثرة بالعجز، ما أعاق شؤون حياتها.

لكن يمكننا القول إن الأصوات الداخلية تحمل أشياء ذات مغزى. تكرار محاولة أمها في حثها للقراءة، جعلها تتقن دور البنت القارئة، وكانت هذه محاولة جيدة لها لتعبر عن مدى صعوبتها في فهم القراءة وعدم انسجامها وتركيزها لها.

في هذه اللحظة ضحكت ضحكة طويلة مكتشفة أن الإنسان عدو ما يجهل، فالذي لا يعي فوائد القراءة تجده يستثقلها ويملها، وبأن غرابة الأشياء التي نقوم بها بحقنا هي إثارة لنجعل أنفسنا نشعر بالحياة.

أما بالنسبة لأبيها، فقد ذكرت مدى انزعاجها في لحظة مشاهدتها مسلسلاً كرتونياً تحبه، يطلب منها تغيير القناة لسماع الأخبار على قناة الجزيرة ولتحقيق مراده عليه أن يرفع صوته بنبرة غاضبة مع سبق الإصرار على الجلوس من دون أي حركة والإصغاء.

هذا الحدث المتكرر في كل ليلة كان فوزاً لها، لتدخل إلى غرفتها محاولة الكتابة حتى وصلت إلى أن اللغة العربية بأشكالها وجسدها المختلف تكونت من 28 حرفاً أبجدياً، أي النصوص كلها متشابهة لكن بصيغ وأفكار مختلفة.
C8AAFF03-458A-49D4-B02F-4D917EF63565
حنين عودة

حاصلة على بكالوريوس تربية عسر تعليمي.

مدونات أخرى