صرامة كندية ودلع إيطالي وفساد برازيلي

صرامة كندية ودلع إيطالي وفساد برازيلي

06 سبتمبر 2020
+ الخط -

عدت قبل أيام من رحلة عمل سافرت فيها إلى ولايتي مينيسوتا وإيلينوي في الغرب الأميركي الأوسط، والتقيت خلالها بصديق قادم من كندا، واستغربت حين عرفت أنه مضطر، بعد عودته إلى كندا، إلى عزل نفسه 14 يوماً في بيته وعدم الاختلاط بأحد، لأي ظرف، وإلا فسيضطر إلى دفع غرامة يمكن أن تصل إلى عشرين ألف دولار كندي، وعرفت منه أن الموضوع يجري التعامل معه بجدية، ويوجد مختصون يتابعون بقاء المواطنين المعزولين في بيوتهم.

لم أكن أعرف وقتها أنني حين أعود إلى مدينة نيويورك سأضطر إلى البقاء في البيت للمدة نفسها، وإلا دفعت غرامة تصل إلى 4 آلاف دولار أميركي، لأن الولايتين اللتين سافرت إليهما أصبحتا من النقاط الساخنة لانتشار فيروس كورونا اللعين، مع أنني حين بدأت رحلتي مطلع شهر أغسطس، لم تكونا ضمن قائمة الولايات التي يجري التعامل بشكل عادي مع من يعود منها، ولذلك تعيّن عليّ أن أدخل على موقع إلكتروني تابع لولاية نيويورك، لكي أبلغ قبل عودتي عن قدومي من تلك الولايتين، وأن أقوم بعد وصولي بتأكيد بقائي في البيت، بالرد على رسائل نصية ترسلها جهة مختصة بمتابعة العائدين من الولايات المثيرة للقلق.  

بالأمس قرأت أن كندا شدّدت إجراءاتها في التعامل مع المواطنين الأميركيين الذين يساهمون في نشر الوباء، حين يتسللون إلى داخل أراضي كندا في فصل الصيف للتنزه في مناطقها الطبيعية الخلابة، مثل منطقة Banff National Park الواقعة في جنوب غرب كندا، ولذلك سعت الإجراءات الجديدة إلى منع الأميركيين من التجول بحرية داخل كندا، لدرجة أن المواطنين الأميركيين العائدين من ولاية ألاسكا التابعة لأميركا، والواقعة في شمال غرب كندا، لن يسمح لهم بالتوقف في أي فندق أو مكان خلال رحلة العودة الطويلة التي عليهم أن يحضروا أنفسهم لعنائها، مع إصدار تحذيرات قاطعة لهم بألا يحاولوا الاستعباط والتحايل على القانون، فيحدث لهم ما حدث للمواطن الأميركي جون بينينجتون.

كان جون بينينجتون القادم من ولاية كنتاكي الجنوبية التي يواصل الوباء فيها الانتشار الساحق، قد تسلل إلى متنزه Banff الشهير، متهرباً من إجراءات العزل الصارمة، وبعد أن ضبطه البوليس في أحد الفنادق، أُجبِر على دفع غرامة تصل إلى 900 دولار أميركي، وأُلزِم بالبقاء في غرفته دون أن يغادرها، حتى يُرحَّل إلى بلاده، لكن جون كان متأثراً - على ما يبدو - بالصورة الذهنية للطف الكندي، التي عبّر عنها الفيلم الأميركي الكوميدي Canadian Bacon الذي كتبه وأخرجه المخرج التسجيلي والساخر العظيم مايكل مور، وكان تجربته السينمائية الروائية الوحيدة، ولذلك غادر جون بيننجتون فندقه، وتوجه في اليوم التالي إلى أحد الأماكن التي يتردد عليها السياح، دون أن يبالي بخطر نشره للوباء.  

كان جون بينينجتون القادم من ولاية كنتاكي الجنوبية التي يواصل الوباء فيها الانتشار الساحق، قد تسلل إلى منتزه Banff الشهير متهرباً من إجراءات العزل الصارمة، وبعد أن ضبطه البوليس في أحد الفنادق، تم إجباره على دفع غرامة تصل إلى 900 دولار أمريكي

قررت كندا أن تغير صورتها الذهنية وتجعل من جون بينينجتون عبرة، حيث أعلنت سلطاتها الأسبوع الماضي أن جون الذي رُحِّل إلى خارج البلاد، سيكون عليه، لو قرر العودة إليها، أن يدفع غرامة تصل إلى 569 ألف دولار أميركي، أو يقضي ستة أشهر في السجن، وهو خبر أتمنى ألا يتأثر به مسؤولو ولاية نيويورك، فيقوموا بتشديد العقوبات لمن تسوّل له نفسه مخالفة القانون والهروب من إجراءات العزل، مع أنني لا أفكر في ذلك على الإطلاق، ليس فقط لأنني رجل منضبط وكريم الأخلاق وأكره الفكاكة، ولكن لأن القانون هنا فعلاً "ما فيهوش زينب".     

...

"وداعاً للعيال الكبار"، هكذا كتبت دانييلا ميساجليا في مجلة (بانوراما) الصادرة في ميلان، تعليقاً على حكم قضائي أعلن بداية النهاية لتقليد إيطالي كان يسمح قانوناً للأبناء والبنات البالغين بـ "البرشطة على قفا أهاليهم"، حيث كان من حقهم أن يطلبوا من أهاليهم الإنفاق عليهم مهما كبروا أو أصبحوا "شحوطَه". الحكم أصدرته المحكمة العليا في إيطاليا بعد دعوى قضائية رفعها أب مطلّق يشكو فيها أنه لا يزال مجبراً على دفع إعانة مالية لابنه البالغ من العمر 35 عاماً، برغم أن الابن أنهى دراسته ويعمل مدرساً للموسيقى بدوام جزئي، لكنه برر "برشطته" على أبيه بأن ما يتقاضاه كمدرس يكفيه للحياة بالكاد.

في مقالها الذي نشرت مجلة (ذي ويك) الأميركية مقتطفات منه، تعلّق الكاتبة قائلة على دعوى الابن: "طبعاً، معظمنا كانوا يحلمون في طفولتهم بأن يصبحوا راقصين أو لاعبي كرة أو مطربين أو موسيقيين أو رسامين أو فنانين أو حتى روائيين وفلاسفة، لكن إذا لم نكن حين نكبر من بين أولئك القلة المحظوظة التي تعتمد على مواهبها فقط في دفع الإيجار وإطعام أسرها، فسيكون علينا أن نشمّر أكمامنا ونختار طريقاً آخر في الحياة"، لكن 67 في المائة من الإيطاليين الذين تراوح أعمارهم ما بين 18 إلى 34 سنة، لا يشاركون دانييلا ميساجليا في رأيها، فهم ما زالوا يعيشون مع أسرهم حتى الآن.

"وداعاً للعيال الكبار"، هكذا كتبت دانييلا ميساجليا في مجلة (بانوراما) الصادرة في ميلان، تعليقاً على حكم قضائي أعلن بداية النهاية لتقليد إيطالي كان يسمح قانوناً للأبناء والبنات البالغين بـ "البرشطة على قفا أهاليهم"

ولذلك تسأل الكاتبة غاضبة: هل يدرك هؤلاء المدللون "والمتدلّعين" كيف عانت الأجيال السابقة لهم وكم التضحيات التي قُدِّمَت خلال الحربين اللتين خاضتهما إيطاليا، وخلال الفترة التي تمت فيها إعادة بناء البلاد، وهو ما اضطر ملايين الإيطاليين إلى الهجرة نحو بلاد غريبة عملوا فيها في ظروف صعبة لكي يعيلوا أسرهم، ولم يكن لديهم رفاهية اتباع أحلامهم فقط على حساب غيرهم، متمنية أن يكون حكم المحكمة نقطة تحول لكي يتم إقفال البنوك العائلية التي يعتمد عليها الكثير من البالغين، ليبحث كل منهم عن عمل، حتى لو لم يكن مطابقاً لأحلامه ورغباته.

ما كتبته دانييلا لا يخلو من وجاهة، حتى وإن كُتب بروح تقترب من روح بعض حلقات الجزء الخامس من مسلسل (يوميات ونيس)، ولذلك لم أستغرب نبرتها الخطابية حين قال لي العارف بالله جوجل إنها محامية، ومع أنني لم أجد بالإنجليزية معلومات تفسر الحرقة التي كتبت بها تلك السطور، خصوصاً أنها بدت لي من صورها أصغر من أن تبتلى بالإنفاق على "شحوطة" يرفضون الخروج من البيت، لكنني تخيلت طبيعة الرسائل التي ستتلقاها من ممثلين عن أولئك "الشحوطة" الذين استهدفهم الحكم، الذي ربما أثار الإعلان عنه شهية الكثير من الآباء والأمهات في بلادنا لرفع دعاوى قضائية مشابهة، لكن أكبر ما سيواجههم إن برشطة الأبناء والبنات على الأهالي، مثل كل الأوضاع الخاطئة لدينا، ليست محمية بأي نصوص قانونية، لكنها موجودة ومنتشرة بشكل يجعل تغييرها مستحيلاً.

...

قضت محكمة برازيلية الأسبوع الماضي بوقف محافظ ولاية ريو عن العمل كجزء من تحقيق موسع في تفاصيل إساءة استغلال المنح المقدمة للولايات للتعامل مع وباء كورونا وإغاثة المتضررين منه، حيث قالت مصادر قضائية إن محافظ ريو ويلسون ويتزل يمثل قمة الهرم في شبكة واسعة من الرشاوى والاختلاسات التي استهدفت المال العام المخصص لمكافحة تداعيات وباء كورونا، والذي كان من المفروض أن يتوجه نحو بناء مستشفيات إضافية ومراكز طبية للإغاثة ومشروعات من هذا القبيل، ليقوم ويلسون ويتزل وشركاؤه الذين شكلوا "منظمة إجرامية" طبقاً لنص الحكم بنهب نسبة كبيرة من تلك الأموال والحصول على إتاوات من الجهات التي سيتوجه لها بعض تلك الأموال.

المفارقة أن ويتزل نفسه كان يعمل قاضياً قبل توليه منصب المحافظ، واكتسب شهرته بعد حملة قادها ضد الفساد وعصابات المخدرات، وهو ما أصاب الكثير من مؤيديه بصدمة، ولا زال بعضهم يصدق أنه برئ، خصوصاً أنه أنكر كل الاتهامات الموجهة إليه، وقال أنها اتهامات طبخها حليفه السابق الرئيس جاير بولسانارو، والذي تلاحقه اتهامات عديدة بالفساد، والمفارقة أن الكثير من أنصار ويتسل هم من أشد مؤيدي وأنصار بولسانارو، ولذلك يشعرون بالحيرة وهم يرون الحليفين السابقين وقد تحولا إلى عدوين لدودين، ويجد بعضهم الحل في تصديق تخريجة ترى أن اتهامات الفساد التي تم إيقاف ويتسل بسببها قام زعماء عصابات المخدرات بتلفيقها له، خصوصاً بعد الإجراءات القاسية التي اتخذها ضدهم في عشوائيات ري دي جانيرو والتي وصفها الكثيرون بأنها إجراءات حربية، وهو ما لا يمكن استبعاده تماماً، خاصة بعد أن تم كشف الكثير عن الطريقة التي تم بها استخدام القضاء لتصفية الحسابات السياسية، والإيقاع بالرئيس البرازيلي السابق لولا دي سيلفا، ولذلك لا أظننا سنعرف حقيقة ما جرى ويجري في موضوع ويتزل، إلا حين نشاهد "حقيقة" الأحداث خلال عرضها في موسم جديد من مسلسل Narcos على نيتفليكس.  

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.