صراع الحياد في السويداء

صراع الحياد في السويداء

25 اغسطس 2020
+ الخط -

إذا استطاعت الاحتجاجات التأثير في طبيعة التركيبة الاجتماعية لسورية، لماذا دُمّرت جغرافية محلية، وأبقي على أخرى في الصراع العسكري والسياسي؟ يعود مشهد مدينة السويداء (جنوب) بتداعيات ذات سياقاتٍ لا تتعلق بانهيار العملة السورية، مثلاً، أو الحوادث الأمنية وتوزيع الولاءات داخل المدينة، وحسب، إنما بطبيعة العقلية الرّوحية الحاملة للخطاب الدّرزي في الثّورة، فهذه الفئة من السوريين تُوَجّهُهَا مرجعياتٌ دينيّة، لديها تفاهمات قائمة على "الحياد" مع اللّاعبين من "المُعارضات السورية والنظام" وحلفائهم الدوليين. 
لم تكن البنية المَنَاطِقِيّة المتميّزة لسورية وتعداد طوائفها ودياناتها مصدر قوّة للبلاد في عهد هذا النظام. على العكس، تم استثمار ذلك لتفضيل فئةٍ على أخرى، ومنطقةٍ على أختها في المدينة الواحدة نفسها. كان النظام يعاقب منطقة بيت سحم في ريف دمشق، مثلاً، بقطع الخدمات وقصفها من أطراف منطقة جرمانا في الريف نفسه، والتي كانت تتمتع بخدماتٍ أفضل ولم تقصف، على الرغم من أن ما يفصل بين المنطقتين طريق سريع إلى مطار دمشق الدولي، لكن الأولى انتفضت، وهي بغالبية سُنيّة والأخرى ذهبت نحو الحياد تقريباً، ثم دفعت الثمن عشرات الاغتيالات والمفخّخات، وتلقت نصيباً كبيراً من قذائف الهاون.

وكما في جرمانا مليشيات موالية للنظام، في السويداء نماذج متطابقة ممن هم في صفوف الموالاة أو الحياد. وبحسب دراساتٍ تناولت طبيعة السويداء الاجتماعية، ونماذج الانقسام في الأجنحة العسكرية التي شُكّلت من أجل الترفّع عن الدخول في قتال سوري – سوري، يظهر على هامش الحياة الاجتماعية هناك وجود الأطراف الموالية للنظام من جهة "النقابات البعثية" والقوات "الشعبية الرديفة" التي شكلت أداةً لاختراق المظاهرات السلمية والوشاية بالناشطين، ومن جهة أخرى الفصائل التابعة لقرى من السويداء، والتي ترفض وصاية النظام، وقد سلّحت شبّانها لحمايتها من أي انزلاقٍ في الأحداث السورية.

تراجعت التظاهرات بالتزامن مع اقتراح حلفاء الأسد السيطرة على المدينة من دون "مفخّخات"

ولكن الحال في السويداء أن "روح الثورة" عادت أخيرا، فكنّا أمام اختبار المدينة التي حاول أهلها، سواءً على أرض ضيعهم أم في الأجزاء التي ينتشرون بها قرب العاصمة دمشق، أن يمثلوا صوتهم اجتماعياً وسياسياً ومدنياً، وجاءت أولى المظاهرات في السويداء مطلع يناير/ كانون الثاني 2020، وكانت تقتصر على غضب شعبي متعلّق بسوء الخدمات والفلتان الأمني. ومنذ نحو شهرين، تغيّر الخطاب، وباتت المواجهة ضد الأسد ونظامه، ورفعت الشعارات السياسية، وتم توثيق ذلك بفيديوهات وصور مباشرة عبر شبكة محلية.
ولعبت الحوادث الأمنية من قتل واختطاف واغتيالات فردية على وتر الحجة الأساسية لزيادة انتشار شرطة النظام ومصفحاته، والمشهد في السويداء ذو تركيبة خاصة اجتماعياً، نظراً للقرابات العائلية الواسعة بين الناس هناك. كانت المدينة تريد أن تؤكد أن الظلم لا يفرّق بين طائفة وأخرى على أرض سورية، وأن الطاغية يستثمر في كل مكونات المجتمع السوري لبقائه. ويتركز وعي الرفض والمطالبة في وضح النهار بالحقوق، على الرغم من العواقب المتوالية، لكن فرصة أهل الكرمة في جنوب سورية، والذين تعرّضوا لمضايقات، بل وتصفيات، بسبب حقنهم الدم السوري، ورفضهم الانسياق وراء أجندات التفرقة، موالاة أو معارضة، تعتبر احتمالاً سياسياً واجتماعياً واعياً ينقصه التنظيم والبناء الفعلي، لنقول إن هذه التظاهرات ليست من أجل آلام المدينة وأهلها فقط، بل استجابة لنداء المقهورين في باقي المدن السورية الطافحة بالطغيان والمخبرين للعودة إلى الشوارع.
واليوم تقف السويداء على المحكّ، فتدخل مليشيات حزب الله في المنطقة تحت مزاعم دعم قوات "الدفاع الوطني" الرديفة للنظام، وتقديم التسليح والتقنيات اللازمة للتفوق على مليشيات "الفيلق الخامس" المدعومة من روسيا، والتي تبرم اتفاقاً مع فصائل موالية للنظام من الطائفة الدرزية في المدينة. هذا التشكيل المتضارب في الولاءات بين إيران وروسيا عبر استغلال الفراغ السياسي في الشارع الدرزي سوف يجعل حوادث الخطف والقتل وحرق المحاصيل الزراعية وافتعال أزمات الخدمات فرصة لإلقاء اللوم فيما بينهم، واعتبار الفلتان الأمني أبرز المزاعم للسيطرة على المدينة التي ترفض القتال الدموي السوري – السوري.

الحرية منذ تسعة أعوام في مخيّلة الطاغية مرهونة بالتجويع والترهيب والاستعانة بالحلفاء ضد الشعب وطموحاته

بسبب جائحة كورونا، تراجعت التظاهرات بالتزامن مع اقتراح حلفاء الأسد السيطرة على المدينة من دون "مفخّخات"، كما كان يحدث عادة في المناطق المنتفضة، بل بإدخال مليشيات تشرعن وجودها حسب رغبة بعض القرى الحيادية من الثورة السورية، وبغطاء مخابرات الأسد، فيما تدفع حكومة النظام إعلامياً بعض مشاهد التحرّكات على مستوى تقديم المساعدة لأصحاب الأراضي الكثيرة التي تعرّضت للحرق في الفترة الماضية، ومحاولات فرض "الأمان"، وإن اقتصرت على القرى التي لم يتظاهر أهلها ضد الأسد. وفي المحصلة، كانت تيارات سياسية في الثورة السورية تأمل عودة المظاهرات تحت أي دافع لإنعاش الروح السورية الغائبة في اقتتال الدول على تقطيع التراب السوري، وعرقلة أي مستقبل سياسي للشعب، لكن حلفاء النظام وحياد المدينة استحالا إلى إخماد الرفض، باستخدام لقمة العيش وفقدان الخدمات والأمان. كأن الحرية منذ تسعة أعوام في مخيّلة الطاغية مرهونة بالتجويع والترهيب والاستعانة بالحلفاء ضد الشعب وطموحاته.