صراعات الضحايا
ينجح أي نظام نجاحاً باهراً في تكريس وجوده وسيطرته، حين يدير علاقته مع ضحاياه، وفق سياساتٍ متباينةٍ على شكل طبقات من الشدة والحد والصدام، عبر هذا التمييز في توزيع الظلم. يظل النظام يبعث أسئلةً خاطئةً مربكةً، محيرة للضحايا، تقنعهم أنهم ليسوا على مسافة واحدة من النظام وشروره. وبذلك، يضمن ألا يتوحدوا تحت ظلمه. ويتوصل النظام، بعد أن خَبِر ضحاياه وقدرتهم على المواجهة، إلى أن توزيعاً غير عادل للقهر والظلم مفيد في تفتيت جمعهم وتشتيتهم.
في مصر معتقلون لدى العسكر، هم عنوان مرحلة من القهر والظلم، يخلق النظام العسكري بينهم فروقاً نوعية في التعامل والإجراءات، ويحكمون بأدوات وأساليب متباينة، وتمارس ضدهم مستويات مختلفة من القهر والظلم، نوعاً وكماً. وبدل النظر في الأمر على أنه سياسة مدبرة يعتمدها النظام، يتم الانجرار للنقاش حول أسباب هذا التباين.
فبالإضافة إلى ما يفعله بالمعتقلين، يتولى النظام نفسه، عبر قنوات إعلامية، إدارة سجالٍ، جوهره التساؤل عن أسباب الفوارق في التعاطي مع الضحايا، وما يقف خلفها، ويتسرع كثيرون، مستجيبين للعبة النظام في التنظير للاختلاف بين الضحايا، والزعم أن جهة، أو تياراً، أو جماعةً، أكثر عداء للنظام. ولذلك، يطلق سراح الآخرين، أو تخفف إجراءات اعتقالهم، ويترك المنتمون لتلك الجهة في السجون، وتشدد إجراءات اعتقالهم.
قد يبدو التساؤل عن هذا التباين والاختلاف مبرراً أول الأمر، إلا أن غير المبرر إغفال تدبير النظام اللعبة برمتها، أو إسقاط هذا الاحتمال، وعدم منحه أولية في تفسير هذه الحالة المتصاعدة من التمييز في توزيع القهر. وهذا الإسقاط إن كان متعمداً فهو يؤكد أن مدبر السجال والنزاع هو النظام نفسه، وإن لم يكن متعمداً فهو يشي بأن الضحايا منشغلون بأنفسهم، وبخصومهم من الضحايا الآخرين، أكثر من انشغالهم الواعي بالنظام الذي يواجهونه. وحتى في حالات القناعة التامة لدى فئة من الضحايا أن فئة أخرى أقل جذرية في صراعها مع النظام، يبدو الانشغال بتلك الفئة، وعلى أي مستوى، خدمة للنظام وإخفاقاً ذريعاً في مواجهته، وإيلائها كل الجهد والانشغال، لا سيما الإعلامي والتعبوي.
ينسى كثيرون أن هذه السياسات ليست وليدة الظرف الراهن، بل هي ملازمة لكل نظام قائم على قهر ضحايا وظلمهم، وأن تبادلاً للأدوار أداره النظام طويلاً بين مختلف التيارات والجماعات، يقمع، اليوم، جهة ويركّزها كخصم ألدّ، ويقرب جهة أخرى، أو يمنحها قسطاً أضأل من قهره. وفي مرحلة لاحقةٍ، يضع تلك الفئة مكان هذه، وهكذا.
ليست المأساة، اليوم، أن الحراك الثوري يجهض كل حين، وتدور حوله الدوائر، ليراوح مكانه، ربما هي صيرورة غير مكتملة، ومتطلبات لم تُستوف لإنجاز الإجهاز على النظام القائم، لكن المأساة كلها أن يكرّر النظام سياساته، ويعمد إلى استخدام الأدوات نفسها، كل مرة، وتظل ناجحة ناجعة، ولا يراكم الضحايا أي وعي تجاهها.
وليس مهماً كيف تقيّم الضحية ضحية أخرى، ولا كيف تراها، هذا أقرب إلى الترف في أزمنة المواجهة، المهم هو التمعن في الكيفية التي يرى بها النظام كل الضحايا، وكيف يطور أدواته لتفتيت توحدهم تحت ظلمه.
وليس ثمة من فضل لضحيةٍ في إثبات أنها تنال القسط الأكبر من قهر النظام وظلمه، (إن لم تكن هذه عقدة المظلومية، فما هي؟)، ولا يعني شيئاً الانهماك في محاولة إجلاء فارق القهر والظلم النازل بضحية وأخرى، للتوصل إلى قناعاتٍ بأن طرفاً ما أصلح من غيره، أو أكثر ثورية. يكفي القول إن هذا معيار مشوّه، يتحكم به النظام نفسه، ويديره كيفما يشاء، وليس هنالك أغرب من إعطاء شهادات الثورية، وفق محددات الاستهداف التي يتحكم بها النظام نفسه، ويوزعها بطريقته، ووفق رؤيته وإدارته صراعات الضحايا.