صديقي الرَّقيب الأوّل

صديقي الرَّقيب الأوّل

24 يونيو 2020
+ الخط -
كأنّ الرُّتب في الجيش كلما تدنَتْ وانخفضتْ (وخاصةً المُتطوّعين)، كان صاحبها أكثر فظاظة، في تعامله مع الآخرين.. يقول صديقي ويتابع: أثناء خدمتي العسكرية الإجبارية في دمشقَ، برتبة رقيب أوّل (قد الدنيا) تُزيّنُ يدي اليسرى بين المرفق والكتف ثلاث ثمانيات، لا شك في أنها تثير الشفقة في نفوس العناصر الذين لا يحملون أية رتبة، وتثير الحقد والغضب، في نفوس مَن يحملون الرتبة الأعلى مباشرةً (المساعد).

مع أننا أنهينا دراستنا الجامعية، ولكن لسوء القدَر، وحظنا العاثر لم نُعاملْ، كما عُوملَ زملاؤنا الخريجون، من قبل فقد صدر قرار سامٍ، من الباب العسكري العالي، بألا تشمل رتبة الملازم سوى فئة قليلة من الخريجين، وما تبقّى هم صف ضباط.

يقول صديقي: وبذلك حرمونا من وضع النجمة فوق أكتافنا، والتي تُضفي على حاملها الوقار والهيبة، حتى إن بعضهم كان يلبس بِزّته العسكرية آناء الليل، وأطراف النهار، وإذا كان خاطباً يتباهى بارتدائها إلى بيت خطيبته، لتقول الخطيبة لأخواتها وصديقاتها معجبة أيما إعجاب، بهذا الخطيب الذي يلبس الزِّي العسكري: (ييي على البدلة شو عاملتو مهيوب، ولا على النجمة اللي على كتفه ما أحلاها). وكأن النجمة ساهمت فعلاً في قبول الأهل به خطيباً لابنتهم.


يتابع صديقي : تصوّرْ لو أنّ أحد الرقباء ذهب إلى أهل خطيبته، وتُزينه ثلاث ثمانيات مُتهدّلات إلى الأسفل، (ليشبع مشأعة، وسخرية، هذا إذا ما بطلوا الخطبة، وزتوا له الذهبات والأغراض بوجهه). ومما يبعث الحزن والأسى في النفوس أنّ المسؤولين عنا هم المساعدون الذين تفنّنوا في إخراج عقدِهم من الرُّتب الأعلى، ومن فشلهم في الدراسة.

فلم أدرِ وزملائي سرّ حقدهم الدفين علينا، فلسنا نحن والله مَن أنزلَ الثلاث نجمات، من أعلى أكتافهم لتصبح أدناها. وكان هؤلاء المساعدون هم عصب العمل في المكان الذي خدمتُ فيه، ومن ضغط العمل، ومن إحساس بعضهم بالدونية، كان يُفرغ غضبه بالمساكين الرقباء الذين هم تحت إمرته مباشرة.

يتابع صديقي: أمضيتُ مدّة خدمتي، وبيني وبينهم ما صنع الحدّاد والفرّان والجزّار أيضا. لم أكن لأحتملَ تسلّطهم، ومعاملتهم السيئة، ولم أداهنهم ولم أدفع لهم رشىً، كما فعل بعض زملائي.

في الديوان المركزي مساعد أول مرتشٍ، كان لا يُدخل طلبات الإجازة للعناصر لتوقيعها، من قبل اللواء، إلا بعد أن يقبض المعلوم، من مال أو من طعام، فكان الذاهب إلى حلب يأتي له بالزعتر الحلبي والصابون، ومن ييمّم شطر إدلب يجلب معه الزيت والزيتون، ومن المنطقة الشرقية كان مساعدنا العتيد يتذوّق الجبنة والسمن العربي.

لم ينل هذا المساعد مني شيئاً، لذلك حنق علي وحاربني لكيلا أحصل على إجازة، وكنت أتعمد أن أُسمعه دائماً، أثناء مزاحي مع زملائي الآخرين، بأنه مُرتشٍ حيث أقول لهم: (واجبنا وزيتوننا) فكنت ألفظ كلمة واجبنا بطريقة كأني أقول (جبنة) بوجود حرف العطف قبلها.

يقول صديقي: أخذت أتقدّم من أجل الحصول على إجازة، عندما يكون ذلك المساعد غائباً، ويُوافق عليها، ليعلم بها، بعد ذلك، ويزداد غضبه مني. وذات يوم تقدمت لإجازة، في غيابه، فلم يُدخلوها للتوقيع مع البريد، فسألت عن السبب، فقالوا لي: المساعد الأول طلب منهم ذلك، لأني أستغل غيابه وأتقدم بها.

أمّا المساعد الذي كان لي شرف أن أعمل تحت إمرته، بشكل مباشر، فكثيراً ما وصلت بنا الأمور، ليشكوني إلى اللواء، لأُستدعَى، وأُهدد بالسجن. كان هذا المساعد طويلاً، ويبدو أنّ له من اسمه نصيباً وافراً، فاسمه (مدّ الله)، وفعلاً مدّ الله في طوله، ولكن لم يمدّ في سعة أفقه وحلمه، فهو نَزِق، ولا يحتمل أي نقاش، ولا يقبل كلامي، إذا قلتُ له: نعمل بهذه الطريقة أسهل وأوفر وقتاً، فلا يقتنع، ويأمر أن أنفذ دون كلام، وغالباً ما تحتدم الأمور بيننا، حتى إنه قال للواء مرة بأني أحرّض زملائي على التمرد وعدم طاعة المساعدين.

يقول صديقي: أعتقد أنه يوم تسريحي فرحَ المساعدون الأوّلون الأشاوس أكثر مني، لأنهم تخلّصوا من رقيب أول أتعبَهم، ولم يهادنْهم يوماً، لذلك عندما قلت لهم: هزلتْ سنصبح زملاء فقد رُفّعتُ إلى رتبة مساعد مثلكم قابلوا كلامي الأخير بابتسامة، وعدم تجهم وغضب.