صباحٌ بنكهة تونسية

صباحٌ بنكهة تونسية

02 مايو 2014

مشهد في تونس (13 فبراير 2013 Getty)

+ الخط -
كل شيء حولي يذكّرني بأنني، لحماً وشحماً ومشاعر وعقلاً، موجود في تونس:
شمس ربيعية مسالمة، تبتهج ساطعة من فوقي في سماء، بلا غيوم، مسترخية، وأمام عينيَّ الكهلتين يحركُ نسيمٌ عليلٌ سعفَ شجرِ النخيل الذي يصطف، على مسافات متساوية، عالياً، على جانبي نهج الولايات المتحدة الأميركية، حيث أجلس، أنا، على كرسي بلاستيكي، قاتم اللون، وأمامي، يقعي فنجان قهوة إكسبرس بلون أبيض محايد، على سطح منضدة معدنية، بسوادٍ لا يتسق وابتسامة الزمن من حولي وداخلي.
كل شيء حولي يذكّرني بوجودي في مدينة اسمها أُشتق من الأُنُس، ولونُها من خضرة سعف النخل والزيتون، وقلبها من تألق بحر لا تهرم زرقته، وعقلها من سطوة جوع إلى المعرفة والحياة.
حركة الشارع من حولي هادئة، وغريب إيقاع قلبي ذلك الصباح الربيعي الدافئ، وأنا جالس، صحبة ترقّبي، في مقهى يقع لصق فندق بلفيدير، حيث نزلت، منذ وصولي في الليلة السابقة، ضيفاً على جامعة منوبة بتونس، ممثلة في قسم وحدة الأنثروبولوجيا للدراسات العربية والمتوسطية، والذي يترأسه الدكتور محمد جويلي وقسم اللغة العربية الذي يرأسه الدكتور الشاذلي الهيشري، للمشاركة في أعمال ندوة الأدب المغاربي، الأدب الليبي نموذجاً.
اشتعل ترقّبي، منذ لمستْ عجلاتُ طائرة الخطوط التونسية مهبط مطار قرطاج في المساء "الفارط". هرعتُ، مغادراً، مع غيري من المسافرين، إلى خارج بدن الطائرة، مبتسماً بود في وجوه المضيفين والمضيفات، ومتوجهاً نحو قسم الأمتعة، في انتظار وصول حقيبة متاعي.
مسافة زمنية طويلة كانت تفصلني عن لحظة استيقاظي، صباح ذلك اليوم، في بيتي بمنطقة وريستر بارك جنوب غرب لندن، لكن هذه المسافة الزمنية لا تقارن بالتي كانت تفصلني، حتى لحظة وصولي، عن تونس المدينة التي دخلت معها سنوات مديدة، عن سبق إصرار وترصد، في تجاهل من جانب واحد، ومن دون مبرر.
كل ما حولي ومن حولي يؤكد وجودي في تونس:
تسألني عاملة المقهى بلسان فرنسي فصيح، مثقل بود أنثوي، وهي تطل عليّ بوجه قمحي لون البشرة تضيئه ابتسامة، عما أود من شراب أحتسيه. طلبتُ بصوت خفيض الجناح، امتناناً، قهوة إكسبرس، واختطفتُ، بسرعة، سيجارة من علبة سجائري، الملقاة أمامي على المنضدة وأشعلتها، وتنفست نيكوتين تبغها بشهيّة، ونفثّته خارج رئتيَّ متأنّياً، ومستمتعاً بتلذذ خلايا دماغي بدفقة النيكوتين التي نفذت إليها، وسكنت حناياها.
كان الوقت صبحاً صبياً غادر لتوه قيود داره، وانطلق، في زحمة الشوارع والأحياء، طليقاً، ناشداً الاستمتاع ببهاء أحلام صباه. وكنتُ، أنا القادم من لندن، جالساً صحبة ترقّبي، على كرسي قاتم اللون وبلاستيكي، في انتظار وصول صديقي الناقد نور الدين النمر رفقة محمد جويلي من مطار قرطاج، أتابع بعينين، كحلهما الأرق والإرهاق، وأيضاً، الرجاء، تفتح زهر أول نهار لي، في مدينة فتحت، على مدى قرون، أبواب  قلبها على مصراعيها استقبالاً لأفواج الليبيين الذين فرّوا إليها، هرباً من الفقر والجوع والمرض والجهل ووحشية السلطة، فاحتضنتهم بحب، وآوتهم بدفء، وأطعمتهم من جوع،  وآمنتهم من خوف، ثم حين طال بهم المقام بها، منحتهم سرها بالمعنى الصوفي للكلمة.
حول المنضدة المجاورة لي، يجلس عاشقان على كرسيين متجاورين، ويصل إلي حديثهما كسقسقة طيرين، فرحين بما في صحبتهما من نشوة ودفء، يدخنان بنهم. ومن حين إلى آخر، تبدر من الفتاة ضحكة، فيرتبك إيقاع النبض في قلبي المُسنِّ، كمن لمسه، على حين غفلة، سلك كهربي. وفي المنضدة التي تقترب من حافة الرصيف، أمامي، على مسافة غير بعيدة، يجلس رجل وامرأة، يدخنان، منهمكين في حديثٍ بصوت لم ترن في أذنيّ دقات أجراسه. التقطتُ حقيبتي الجلدية الصغيرة التي أحملها معي في تنقلاتي، وأضع بها ما أحمل من لوازم وأوراق وكتب، من مكانها في كرسي مجاور لي، وفتحتها وأخرجت منها كتابا (مجموعة قصصية) لكاتب أميركي شاب اسمه فيل كلاي، كان مجنّداً في الجيش، وعاش أحداث غزو العراق، ثم حين أنهى خدمته العسكرية عاد إلى بلاده، وتحول إلى كتابة القصة القصيرة. وهذه مجموعته الأولى (Redeployment)، والكلمة مصطلح عسكري ترجمته "إعادة الانتشار"، وتدور أحداث القصص حول فترة وجوده في العراق.  بدأت القراءة منشغلاً عمن حولي، ومستغرقاً في تتبع سطور القصة الأولى.
كل شيء حولي يؤكد أنني لست في لندن:
سمرة الوجوه، رعشة سعف النخيل في نهج الولايات المتحدة الأميركية، تراكم السنين القاسية على ملامح وأجساد المباني التي تمتد على امتداد الشارع في حالة إعياء ظاهر، أكياس القمامة الملقاة على جانبيّ الطريق، طعم مذاق قهوة الإكسبرس، تدفق دفء شمس ربيعية في برودة دمي، أصوات المارين العالية النبرة، همس العاشقين جنبي حول المنضدة المجاورة لي، "حُوسة" مطار قرطاج ليلاً. نظرة شرطي الجوازات في وجهي، بعدما تصفح جواز سفري البريطاني، وسؤاله لي: هل أنت ليبي؟ الدكتور جويلي، وهو يقف منتصباً بقامته الطويلة في ردهة المطار بيدين في جيبي بنطاله الجينز، ونظرات عينيه من خلف عدستي نظارته تفتشان الواصلين بحثاً عني.
كل شيء حولي يؤكد أنني على بعد مرمى حجر من ألفة وجه أمي في طرابلس:
... في سيارة الدكتور جويلي، امتد سريعاً بيننا حبلُ الكلام والضحكات. 
ليس هناك ما يؤكد، أو ينفي، أنني بدأتُ، أو سأبدأ، علاقة بمدينةٍ، كامرأة جميلة فاتنة الملامح، أراها، وأعرفها عن بُعد، وأسمع عنها الكثير، منذ زمن طويل، لكنني لم أفكر، أو أسع، يوماً، إلى التقرب منها، وكأنني على خشية من الوقوع في شراك هواها: لماذا؟
كل ما حولي، ومَنْ حولي، ذلك الصباح الربيعي المشمس، يؤكد أنني في تونس، بعيداً عن ضحكة "أمُولة" بنتي في لندن، وعلى مرمى شهقة من حنان أمي في طرابلس، حيث تركتُ، منذ سنين طويلة، طفولتي وصباي ومراهقتي، وشطراً من طراوة شبابي في انتظار عودتي.

 

          

 

 

DA8CA258-D35A-46E5-9AA0-3A3DA41BA53A
DA8CA258-D35A-46E5-9AA0-3A3DA41BA53A
جمعة بوكليب

كاتب ليبي مقيم في لندن

جمعة بوكليب