صالات العرض.. تحوّلات السياسة والسوق

صالات العرض.. تحوّلات السياسة والسوق

17 اغسطس 2019
معرض "زفت لاند" لهاني زُعرب، "غاليري كريم" (عمّان2019)
+ الخط -

في تسعينيات القرن الماضي، ظهرت أولى قاعات العرض (الغاليري) في عمّان، والتي عملت على إيجاد سوق للفن بعد أن كانت غائبة في مدينة، يمكن القول إنها حتى ذلك الوقت كانت تتعامل مع الفن خارج المنطق التجاري والأعراف والمعايير التي تحكم علاقة الفنان بالمقتني والجمهور.

أتى ذلك بعد بروز أجيال من الفنانين الأردنيين الذي نالوا تحصيلاً أكاديمياً كان محصوراً على قلّة في وقت سابق، ونشطت أيضاً المتابعات والكتابات النقدية في الصحف التي كانت شبه غائبة، إلى جانب قدوم عدد من الفنانين العراقيين إلى عمّان وتأسيس مراسم خاصة بهم وانخراطهم في الفن ممارسة وتنظيراً وكتابة.

لا يكتمل المشهد إلا بالتعريج على الأوضاع الاقتصادية التي عرفت حينها نمواً لقطاعات عديدة لم تكن موجودة في دولة القطاع العام التي استمرت حتى نهايات الثمانينيات، وتزامن ذلك مع التحوّل نحو الديمقراطية بعد حوالي ثلاثة عقود من فرض الأحكام العرفية، ما انعكس إيجاباً بحدود معينة على الثقافة بشكل عام.

الانفتاح والازدهار الذي اتسمت به تلك المرحلة سرعان ما تراجعا نتيجة انكماش سوق الفن بحلول الأزمة المالية العالمية بين عامي 2007 و2008، إذ انخفضت أعداد المعارض المقامة والتي كانت تصل إلى عشرين معرضاً شهرياً، كما عزف الكثير من المقتنين عن شراء الأعمال الفنية، وقلّ حضور الفنانين العرب والأجانب عبر استضافتهم إلى حد كبير.

"العربي الجديد" تطرح مجموعة من التساؤلات على عدد من الفنانين وأصحاب قاعات العرض، بغرض مراجعة دور الغاليري وحضوره أردنياً، وما هي التغيّرات التي حدثت في السنوات الأخيرة.


تفاوت المعايير
يرى أستاذ الفن التشكيلي غسان أبو لبن أن صالات العرض اليوم تغلب عليها النزعة التجارية، وإن ارتبطت في الكثير من الصالات بالجانب الجمالي والفني، وربما النقدي في بعض الأحيان. فالجانب التجاري المقرون بالجمالي إنما تبرره توجّهات المقتنين وليس توجّهات الفنان أو العمل الفني. إذ إن القيمة الجمالية بات يحدّدها المتلقّي، وهذا يسير في الاتجاه المضادّ تماماً مع التوجّه التثقيفي التشكيلي الذي يحمل مسؤوليته كل من الفنان وصالة العرض والمتحف، حين يكون موضوع البحث هو العلاقة المباشرة بين اللوحة والمتلقّي.

ويوضح أنه من هذا المنطلق تنسحب أغلب صالات العرض من مسؤولية فرض وجهة نظر جمالية نقدية غايتها رفع سويّة التلقّي والاقتناء، لترضخ لمؤشرات السوق وما هو المرغوب والمطلوب، مما يسبب حالة انعدام الوزن في الحركة التشكيلية، ورجحان كفّة اللوحة التي تتناسب وذائقة (جمهور الفن التشكيلي) على كفّة اللوحة ذات السويّة الإبداعية والنقدية، وبالتالي يجلس الفنان المسؤول جمالياً وإبداعياً محسوراً يراجع حساباته.

كما يلفت أبو لبن إلى أن لصالات العرض الحق في تحقيق الربح وفي ضمان استمراريتها في سوق الفن لكن الأضرار الجانبية لا بدّ من حدوثها وإن حسنت النية، ويغفل مالكو صالات العرض مسؤوليتهم تجاه الحركة الفنية والفنان، وبأنه ما إن اختاروا دخول الساحة التشكيلية فإنهم بالضرورة يلعبون دوراً حيوياً إيجاباً وسلباً ويملكون من القوة ما يكفي لصناعة فنان وصياغة الحالة التشكيلية وفق توجهاتهم الخاصة بهم.

ويختم "لهذا نجد أن المشهد الثقافي لا يزال يعاني من الارتباك، ومن تفاوت المعايير في تحديد التفضيلات الجمالية والنقدية التي تقوم عليها الحركة التشكيلية الصحيّة. هذا الارتباك يخلق مساحة مناسبة لتكاثر أشباه الفنانين والموهومين، والذين بشكل ما يلبّون متطلبات المتلقي والمقتني الذي يفرض إيقاعه الفني على الساحة وتوجهات أصحاب صالات العرض".


الفن آخر الأولويات
لا تفصل الفنانة ومؤسسة "غاليري رؤى 32 للفنون" سعاد العيساوي السياسي والاقتصادي عن الثقافي، إذ كل الظروف مرتبطة ببعضها بعضاً، كما حدث في التسعينيات، فالثقافة تحتاج إلى انفراج سياسي وانتعاش اقتصادي ورخاء نفسي واجتماعي حتى يتمّ الالتفات إلى الفنون، موضّحة أن "الأوضاع السياسية في المنطقة معقدة وصعبة وكذلك الاقتصاد، أردنياً وعربياً وعالمياً، وأصبح الفن آخر الأولويات".

تبيّن أنه "في التسعينيات تعدّدت صالات العرض ومراكز الفنون، وحتى البنوك أسّست قاعات لأغراض تجارية بدلاً من دعم الفنون، ما ولّد تنافساً شديداً على المقتنين، ازداد في الآونة الأخيرة، خاصة أن العديد من الفنانين أصبحوا يسوقون لوحاتهم في مراسمهم من دون الحاجة إلى وساطة الغاليري في اعتداء على دوره، ولا ينفي ذلك من وجود بعض المقتنين المثقفين، لكن التراجع أدى إلى وجود حسابات معقدة في الآونة الأخيرة".

وتشير العيساوي إلى أن العلاقة تبادلية، ومهمة الغاليري التعريف بالفنان وإيجاد تفاعل بينه وبين الوسط الثقافي والصحافي، وإقامة الندوات واللقاءات حول تجربته، كما أن إدارة الغاليري تحرص على تواصل دائم ومنتظم مع المقتني، مقابل أن يستحق نسبة من بيوع اللوحات.

وتختم بالتأكيد أن "ازدهار قاعات العرض لم يأت طفرة، بل هو تعبير عن مرحلة شهدت انفراجاً سياسياً وانفتاحاً اقتصادياً، وبني بشكل تراكمي مع تفاعل التجارب الأردنية والعربية".


موقع القيّم
يقول الفنان علاء طوالبة "لطالما كانت القطع الفنية سلعة، والمعرض الفني/ الغاليري هو السوق التي تباع بها، وطالما كان المعرض/ الغاليري ممثلاً بالمالك أو القيم على المعرض curator الذي يمتلك خبرات ومعارف أعطته سلطة مباشرة على المشهد الفني أكان باختيار للأعمال التي تستحق أن تعرض أو بقدرته على إقناع المقتنين بشرائها لثقتهم بخبرته".

يضيف "خلال السنوات السابقة تغير موقع القيّم على المعرض/ المالك، من خبير في مجال الفنون إلى رجل مبيعات أولويته بيع أكبر عدد ممكن من السلع بأكبر نسبة ربح ممكنة بغض النظر عن القيمة الاستطيقية للعمل، وانتقل من مؤثر في تشكيل المشهد الفني إلى تابع يلهث خلف استطيقا السوق الرائجة حالياً Trending في الغرب بغض النظر عن قيمها البصرية إن وجدت".

يوضح طوالبة "أسهم هذا التغيير في تراجع المشهد الفني أكان بقلة عدد المعارض وعدد المهتمين بزيارتها بسبب نوعية الأعمال المعروضة وعدم قدرة الناس على التفاعل معها، أو تراجع المبيعات بسبب الضغوط الاقتصادية وفقدان الثقة بقدرة القيمين على المعارض بانتقاء الأعمال التي تحمل قيمة جمالية أو حتى مادية على المدى الطويل".


بين الفنان والمجتمع
أما مديرة "غاليري وادي فينان" نادية حداد، فتشير إلى ضرورة أن نعيد بداية تعريف الغاليري، وتحديد الدور المناط به، وهل يمثل مكاناً لبيع الأعمال الفنية أم أنه مركز ثقافي، وله دور في إضافة وإثراء المجتمع بقيم جمالية".

وترى أن الغاليري يفترض أن يهدف منذ تأسيسه إلى أن يكون منارة وحلقة تواصل بين الفنان والمجتمع، سواء كان هدفه التمتع بجمال الأعمال الفنية عبر المشاهدة أو اقتناء هذه الأعمال، وإظهار القيمة الحقيقية للعمل الفني بما يكفل حفظ الجهد الفني المبذول من قبل الفنان.

تلفت أيضاً إلى أن عمل الغاليري يعتمد بشكل أساسي على ولاء الفنان وإدراكه لأهمية دوره، وتفضيله على المصلحة الآنية، وأيضاً تقدير المجتمع لأهمية الغاليري الذي يقدّم له الإمكانيات للتعرف إلى مجموعة كبيرة من الأعمال بأسهل الطرق.


غياب المنظومة الثقافية
من جهته، يشير الفنان والناقد التشكيلي غسان مفاضلة إلى أنه "قبل نحو عشر سنوات، ومنذ أواسط تسعينيات القرن الماضي، شهدت عمان تحولاً ملموساً في حراكها التشكيلي على مستوى ازدياد صالات العرض وزخم المعارض وتنوعها المحلي والعربي والعالم، بيد أن ذلك التحول لم يسهم في تحقيق تراكماته أو تشكيل ملامحه التي من شأنها أن تمدّه بأسباب الحضور والفاعلية والاستمرار".

يتابع "كان الانكماش والانحسار هما الخلاصة التي أعقبت ذلك التحول الذي لم يكن هو نفسه تعبيراً عن عافية المشهد التشكيلي بأطرافه المختلفة من فنانين وصالات عرض ومقتنين ومتلقين"، مبيناً أن "سبب تراجع دور صالات العرض وانكفائها على تنظيم معارض وفعاليات لا تترك أثراً أو صدى، يعود إلى غياب المنظومة الثقافية التي تنطلق من الواقع الفعلي للمشهد الفني، ومن العلاقة "التفاعلية والخلاقة" التي تكاد تكون معدومة بين الفنان وصالة العرض والمتلقي والمُقتني على حدٍ سواء".

المساهمون