شيوعيون في المساجد!

شيوعيون في المساجد!

02 يناير 2020
+ الخط -
غرابة العنوان تعود إلى غرابة الموقف، فقد لمحته مصادفة خارجاً من صلاة العصر في مسجد عمر بن عبد العزيز المتقشف في بنائه مثل صاحبه، والواقع في حيّ "الكسيح" بمدينة إدلب في الشمال السوري.

أراد أن يختفي في زقاق مقابل باب المسجد. ناديته: رفيق. التفت مذعوراً والفزع في قسمات وجهه، وأنا فزعتُ لفزعه، ما كنتُ أقصد ترويعه، ولكن حصل.

الرفيق من مواليد عام 1930 انتسب إلى الحزب الشيوعي السوري في أوائل خمسينيات القرن العشرين، وما زال إلى اليوم أميناً مُخلصاً لحزبه ولقائده التاريخي خالد بكداش. وكان عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي فترة لا بأس بها. ما الذي أفزعه وتمنى أن تنشق الأرض وتبلعه قبل أن يراني؟ هل لأنني ضبطته بالجرم المشهود يُصلي في المسجد، وقد كان مُلحداً؟ ما الذي غيَّر فكره؟ وهل الصلاة جريمة في عرف من يعتنق الشيوعية؟ وبتعبير آخر، هل من اللازم لتمسي شيوعياً أن تُصبح ملحداً؟

يُجادل الخلق في شأن دين أهل الشيوعية منذ أن وجدت الأحزاب الشيوعية. هل من الممكن أن تكون مسلماً تؤدي الفرائض، حاجَّاً - مثلاً - وشيوعياً في آن واحد أو مسيحيَّاً تذهب إلى الصلاة في الكنيسة وتنشطُ في حزب شيوعي؟ وقد رأيتُ رفاقاً في الحزب الشيوعي يعودون إلى أحضان الكنيسة مع التزامهم الفكر الشيوعي، أو هذا ما يقولونه، وأنا أُصدقهم، لأن عبارة "أنت مُلحد" ثقيلة على النفس في مجتمعاتنا. أقررنا بذلك أو نفيناه.


ولعلها نادرة تستحق الذكر أن "مصطفى جقمور" من أهل مدينة إدلب وأحد أعضاء الحزب الشيوعي السوري ظلَّ لأكثر من ستين عاماً شيوعياً مؤذّناً، يؤذّن في الناس، ويُصلّي في المسجد. والشيوعية كما فهمها - رحمه الله - موقف وجداني مؤنسن بحب الناس.

هل عليكَ أن تهجر الشيوعية وأهلها إن كنت ترغب في أداء فرائض دينك؟ أو هل عليك أن تترك دينك لأنك شيوعي؟ وما نقول في "الشيوعي المزمن" الأديب السوري الكبير عبد المعين الملوحي، صاحب أكثر من مئة كتاب، وقد عاش أزيد من تسعين عاماً، ومات شيوعياً مؤمناً؟ ما تفسير هذه الحالة؟ ما موقف الشيوعية من الدين؟ وهل الدين أفيون الشعوب؟ وهل فكرة الشيوعية عن الدين غامضة؟

يقول ماركس:
"الدين زفرة الكائن المثقل بالألم، روح عالم لم تبقَ فيه روح، وفكر عالم لم يبقَ فيه فكر، إنه أفيون الشعوب. إذن فنقد الدين هو الخطوة الأولى لنقد هذا الوادي الغارق في الدموع".

وفي ترجمة:
"الدين في شطرٍ منه تعبيرٌ عن التعاسة الواقعية، وهو من جهة أخرى احتجاجٌ على التعاسة الواقعية. الدين زفرة الإنسان المسحوق، روح عالم لا قلب له، وروح الظروف الاجتماعية التي طُرِدَت منها الروح. إنه أفيون الشعب".

وفي ترجمة أخرى:
"التشوه الديني تعبيرٌ عن التشوه الواقعي واحتجاج ضد هذا التشوه. الدين، آهة المخلوق المضطهد، قلب العالم عديم القلب، كما هو روح فكر عديم الروح. الدين أفيون الشعوب".

وفي ترجمة أيسر:
"إن التعاسة الدينية هي، في شطر منها، تعبير عن التعاسة الواقعية، وهي من جهة أخرى احتجاج على التعاسة الواقعية. الدين زفرة الإنسان المسحوق، روح عالم لا قلب له، كما أنه روح الظروف الاجتماعية التي طرد منها الروح. إنه أفيون الشعوب".

تعددت ترجمات العبارة الملتبسة في دلالاتها والفجَّة في عباراتها، والتي حاول فيها ماركس الشاب - كان في الخامسة والعشرين من عمره - تقليد النمط الفكري الفلسفي السائد في عصره، وهي أشهر ما ورد عنه بشأن الدين، تجدها في مقدمة كتابه (مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيغل) مكتوبة عام 1844.

يُلاحظ القارئ الجيد لمؤلفات ماركس أن عباراته عن الدين يرجع معظمها إلى عهد الشباب. وهي تُعبِّر عن فكر شاب لا فكر فيلسوف، وينبغي عند الاقتباس من ماركس الانتباه إلى المفاصل الزمنية المختلفة لتطور منهجه. فما يقوله ابن الخامسة والعشرين هو غير ما يقوله ابن الخمسين.

لو أمعنَّا الفكر في هذه المقولة عن الدين لوجدنا أن الحماسة الثورية لهذا المفكر الشاب طغت في كلماته. ما معنى العبارة وماذا كان يدور في رأس ماركس؟ هل لخص فيها رؤيته تجاه الأديان؟ وهل هذه المفهومات الدينية عن العالم تُخدِّر الناس وتُلهيهم عن شقاء الحياة واستغلال أصحاب رأس المال، فتنسيهم المطالبة بحقوقهم، والتفكير في ما يحيط بهم، وذلك طمعاً بحياة أفضل في ملكوت السماء أو في جنَّة الله؟

أعرف قوة الضغط من المحيط الأُسري والاجتماعي الذي يقع على المناضل الشيوعي. وحقيقة الأمر، يزيد هذا الضغط كلما تقدَّم المرء في السنِّ. وبما أن المُناضل الشيوعي كرَّس مشروعه في مجمله لنصرة الخلق المتعبين، رفاق دربه من عمال وفلاحين وصغار كسبة وربات بيوت وفقراء مساكين وأهل سبيل، وقد امتلك وجداناً يدفعه إلى أن يكون مناضلاً اجتماعياً، وهذا لا يلزم أن يكون مُلحداً في مجتمع يشكل فيه الدين أحد أهم معتقدات الناس، ويحظى بتأثير كبير في سلوكهم وحياتهم وعاداتهم وتقاليدهم. ولا يمكن غضّ الطرف عن متعلقات الدين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فتاريخ الشرق هو تاريخ الأديان، على حد تعبير ماركس.

وهُنا أعود إلى مقدمة كتاب "مدارات صوفية" لصديقي البغدادي هادي العلوي، وأُنهي حديثي بما قاله عن الشيوعية - قبل أن أدخل في عواقب ومحظورات أنا في غنى عنها الآن - وتراني أميل إلى رأيه رحمه الله:

"جاء كتاب مدارات صوفية - تراث الثورة المشاعية في الشرق - في مجمله لتعزيز الوجدان الشيوعي عند أجيالنا الجديدة لمساعدتهم في الخروج من حجاب العقيدة إلى فضاء الوجدان ولزعزعة المألوفات التي تعلموها من الثقافة المترجمة. فلكي يكون الإنسان شيوعياً جيداً يجب أن يكون له قلب شيوعي لا مجرد فكر شيوعي. بل إن الشيوعية لا صلة لها بالفكر، بل هي ليست من الثقافة في شيء، بل إن أسوأ غرارات الشيوعيين هم المثقفون".

عبد الرزاق دحنون
عبد الرزاق دحنون
كاتب سوري.. بدأ الكتابة عام 1980 في مجلة الهدف التي أسسها غسان كنفاني.