شيراك الأفريقي.. مع الاستبداد والنفعية

شيراك الأفريقي.. مع الاستبداد والنفعية

30 سبتمبر 2019
+ الخط -
يقول الرئيس الفرنسي الراحل، جاك شيراك، في كتاب عنوانه "شيراك من خلال النصوص"، صدر عام 2000 "أنا أومن بأفريقيا، ولا أفكر من منطلق أن هذه القارّة محكومة بقدر حتمي يلخص ويختزل مستقبلها في البؤس والمجاعة والنزاعات والأمراض"، قال هذا في كلمة ألقاها أمام الجالية الفرنسية في ساحل العاج في 1995. وقال، في حوار مع قناة تي في 5 وإذاعة فرنسا الدولية "أفريقيا، بحكم تقاليدها وثقافتها وتاريخها، منطقة للحوار، إنها ليست بلد المواجهات غير الناجعة". 
كان شيراك صاحب تفكير إيجابي تجاه القارة السمراء، فرمزيّته التاريخية وكاريزميّته السياسية وطول تجربته وامتداده الطبيعي للنزعة الديغولية، جعلته هذه العوامل كلها يميل أكثر إلى تغليب البعد التنموي وتوحيد الدول الأفريقية، وتمكينها من أسباب الوحدة والقوة والتنمية، وتخفيف الديون عنها. وهناك من كان يرى في علاقات شيراك الرسمية والشخصية مع أفريقيا صدقا ووفاء. ولهذا السبب، كان يعتبر بمثابة المحامي المعتمد لدى دول أفريقية. غير أن هناك من يحمّله مسؤولية بؤس بعض الدول، بسبب وقوفه إلى جانب رؤساء اتسموا بسياسة القبضة الحديدية وبحكم استبدادي دموي. وقد تردد أن رؤساء في القارة موّلوا حملته الانتخابية عام 1994، كما مولوا أحزابا سياسية فرنسية من اليمين واليسار. وفي 2002، تلقّى حوالي عشرة ملايين دولار من رؤساء أفارقة لتمويل الحملة الانتخابية الرئاسية التي واجه فيها خصما عنيدا هي ماري لوبن. وهذا ما يبين وجود علاقات متشابكة ومعقدة وعميقة بين فرنسا وأفريقيا، وهي نتيجة مسار تاريخي من التحكم والسيطرة والسطوة اللغوية والاقتصادية، 
استكمالا لدور بدأه الرئيس الراحل شارل ديغول، الذي يعتبر جاك شيراك امتدادا طبيعيا وفكريا له.
كانت قضايا حقوق الإنسان في عهد الرئيس الراحل الاشتراكي، فرانسوا ميتران، تقضّ مضاجع الحكام الأفارقة، وكانت أي زيارة لميتران إلى أي بلد أفريقي، أو حضوره في أي قمّة فرنكفونية، تضع مسألة حقوق الإنسان في صلب جدول الأعمال. وهذا ما كان يصيب بعض الرؤساء باستياء واستفزاز، ويضعهم في موقف حرج أمام شعوبهم وأمام الرأي العام الدولي، بسبب دور الإعلام، خصوصا الفرنسي في فضح الانتهاكات. علما أن معظم الدول الأفريقية كانت تتلمس الطريق لوضع أسس انتقال ديمقراطي جنيني، وكانت زوجة الرئيس، دانييل ميتران، ترأس مؤسسة تحمل اسمها، تخصصت في رصد الانتهاكات والخروق المرتكبة ضد حقوق الإنسان، بما في ذلك في مخيمات تندوف التابعة لجبهة البوليساريو، ودارت بين هذه المؤسسة والسلطات المغربية حرب إعلامية محتدة.
بهذا المعنى، يمكن القول إن حقوق الإنسان هي السيف الذي كان ميتران يضعه على رقاب القادة الأفارقة، ومن خلاله وبواسطته كان يدافع عن مصالح فرنسا الحيوية ويحصّنها. وبعد رحيله، لم تعد لقضية حقوق الإنسان أولوية وأسبقية، فجاك شيراك كان يضع تحسين ظروف العيش والتنمية وتوفير العلاج في مقدمة الأولويات، إلى درجة أنه كان يعتبر أن الديمقراطية هي الأكل والعلاج والتربية، بل كان يرى أن التعدّدية السياسية في أفريقيا من أشكال الترف، وكان هاجسه آنذاك، في منتصف التسعينيات، ضمان العيش الكريم. وقد قال مرة إن القارة الأفريقية ليست ناضجة لإقامة الديمقراطية. وقد جعله هذا الأمر يغضّ الطرف عن نزوات حكام ديكتاتوريين وممارساتهم، ومن ذلك دفاعه عن اختيارات الرئيس التونسي الراحل، زين العابدين بن علي، التنموية، واعتبرها ناجحةً وصائبةً، خصوصا وأن صناع القرار في تونس كانوا مقتنعين بأن بلادهم ستستمر في التمتع بمعاملةٍ ذات رعاية خاصة من فرنسا والغرب، لكونها دولة علمانية عالقة بين ليبيا غريبة الأطوار والجزائر فريسة الحرب الأهلية. وأثارت تصريحات شيراك موجة من الغضب والتذمر، واعتبرت الصحافة الفرنسية، ومعها جزء 
عريض من النخبة السياسية والثقافية، أن هذه الأقوال تعد إجهازا وتنكرا لمبادئ كونية وثوابت دافعت عنها فرنسا على الدوام، وهذا ما دفع، بشكل مباشر أو غير مباشر، الصحافيين الفرنسيين، نيكولا بو وجان بيير، إلى إصدار كتابهما عام 2005، "صديقنا بن علي"، على غرار ما فعل جيل بيرو عندما أصدر كتابه عن سنوات حكم ملك المغرب الراحل الحسن الثاني "صديقنا الملك".
كسر جاك شيراك قاعدة ميتران، وغيّر الأسلوب والمنهج وحتى القاموس، ولم يشعر بأي حرج أخلاقي في مساندته المطلقة رؤساء أفارقة مستبدين، كالغابوني الراحل عمر بونغو وهوفيت بوانيي وجوزيف كابيلا، إلى درجة أن رئيس زائير الراحل، موبوتو سيسيسكو، كان يلقب ابن شيراك، نظرا إلى العلاقة الوطيدة والأبوية التي كانت توجد بين الشخصين، وكان شيراك يعرف جيدا أن موبوتو الذي حكم زهاء 30 سنة كان يجسّد أقصى درجات الدكتاتورية، لكنه كان يقيّم العلاقات الفرنسية الأفريقية من زاوية اقتصادية نفعية، إضافة إلى تغليبه التصور الفرنكفوني الذي كان يحكم تصرفاته وعلاقاته، فهو كان يعمل من أجل إيجاد تكتل فرنكفوني - أوروبي ضد أميركا، وهو الذي كان وراء فكرة إنشاء قناة فرانس 24 لمواجهة الاختراق الإعلامي الأميركي العالم العربي وأفريقيا وغيرهما، ولتقدّم رؤية فرنسية للأخبار العالمية من خلال الآراء التي تعرضها، وبتنوع الثقافات والديانات، مع إعطاء مكانة للثقافة والحوار والمواجهة الفكرية، مستهدفة جمهورا ناطقا بعدد من اللغات في الشرق الأوسط والمغرب الكبير والقارة الأفريقية وآسيا، وأخيرا أميركا اللاتينية.
يقول جاك شيراك، في مؤتمر صحافي على هامش قمة مجموعة 7 في كندا في 15 يونيو/حزيران 1995، إن الأميركيين يريدون أن يكونوا حاملين فكرة معينة عن الديمقراطية، وفكرة معينة عن حقوق الإنسان، وفي الوقت نفسه، يريدون أن يُمسكوا زمام القيادة العالمية. هناك بداهةً تناقض كبير وصارخ بين أن تتخلّى عن التزاماتك المالية في المجال التنموي وأن تظهر دائما بمظهر الذي يدافع دائما عن حقوق الانسان والديمقراطية، ويريد، في الوقت نفسه، أن يحكم ويقود العالم". ويردّ ضمنيا ليلة رأس السنة 1999 على استفراد أميركا، بقيادة العالم قائلا إن "فرنسا ستكون ما نريده، أن تكون أمة موحّدة حيوية متضامنة منفتحة، لا تقبل أي نكبة، ففي عالم حي، لا شيء جامدا، فالمستقبل رهين بنا، والمستقبل رهين بقدرتنا على البناء والابتكار والحلم المشترك على طريق المغامرة الإنسانية".
حبُ شيراك أفريقيا تعكسه طريقة عناقه وتقبيله السكان ومصافحته لهم في كل زيارة. مع ذلك، لا أحد ينكر أنه كانت لديه اهتمامات خاصة بأفريقيا، ترقى إلى مستوى المسؤولية الأخلاقية،
 فدافع عن حق الأفارقة في العلاج ضد الحمّى الصفراء والإيدز وأوبئة وأمراض فتاكة. وربما شجعته سعة ثقافته وولعه بالثقافة البدائية وكل ما هو أصيل على أن يولي القارة السمراء عناية استثنائية، خصوصا وأنه كان مؤمنا بحوار الثقافات، وربطته وشائج خاصة مع حضارات كثيرة.
وإلى ما سبق، لا يُنسى الدور غير المحايد الذي لعبه شيراك في ساحل العاج، عندما ناصر لحسن واترا ضد الجنرال باغبو الذي كان يسعى إلى التخلص من القبضة الديغولية، والتحرّر من الهيمنة الفرنسية، معتقدا أن الاستقرار والوحدة الوطنية والتماسك العرقي تمر عبر الانفكاك من فرنسا. ويمكن القول إن شيراك كان له موقف منحاز، ووصف باغبو رأس الحربة فيما حدث. ووجود القوات الفرنسية في هذا البلد، وفي مالي وأفريقيا الوسطى وتشاد، حجة قاطعة على أن أفريقيا تبقى قارّةً تحت النفوذ الفرنسي. وتعتقد باريس اعتقادا راسخا أنه ليس من حق أي قوة مهما كبر حجمها، وعظم جبروتها، أن تجد لها موطئ قدم هناك، وقد تنبأ شيراك، قبل عشرين سنة، في لقاء في جوهانسبورغ، بأن الصين ستكون القوة الناعمة القادمة، ولن تستعمل الحروب ولا حمامات الدم، وإنما المعرفة والتكنولوجيا والاقتصاد والتجارة. وجاك شيراك يعترف صراحة أن المعطى بديهي، وهو عودة الأمور إلى نصابها وأصلها، لأن الصين مهد الحضارة، إضافة إلى إعجابه الشديد بحضارتها وفنونها وتقاليدها، كما هو الشأن بالنسبة للحضارة الهندية.