شهودٌ على مَن قتل الموسيقى

شهودٌ على مَن قتل الموسيقى

14 أكتوبر 2016
+ الخط -
جاءني بعودٍ قديمٍ في حقيبةٍ تصدر عنها رائحة أزقة الشام العتيقة، رائحةٌ تخلط خجل الياسمين بعبق التراب، مع زفيرٍ تَعِبٍ، فتح الحقيبة ليُخرج منها تحفة فنية خشبية بأوتارٍ مُغبّرة، تلمع لناظرها كأنها تحتفل بألف لحن، وخدود حلبية قد عُزفت عليها آلاف المرَّات بخفَّة أنامل هرمة.
وأنا التي أدمنت أناملي ملامسة ذلك الخشب والتودّد إليه ليلِدَ لي فردوسي الخاص، مذهولة مما أرى، كمن ارتمى أمامها كنز شهريار: أتهديني عوداً؟ عوداً أثرياً ثميناً! كيف يا صديقي، وأنت الذي تنزح من سورية إلى مخيّمٍ فقيرٍ في بيروت، مكسور المُلك ولا تكاد تحصّل قوتك؟
قال سأحكي لكِ كل شيء، ففي حلب القديمة، سوقٌ بعطّارٍ وديارٌ شهدت غمار أشدّ المعارك، أكبرها بين المجاهدين والفرنسيين بعد تمزيق سورية إلى دويلات، وأصغرها بين رجلٍ وإمرأته عند خلعها البرقع أمام مسنٍّ يقربها باسمٍ أو اثنين.
في حلب مشغلُ رجلٍ سبعينيٍّ، يحتفظ بقليلٍ من صحته بهدوء، يناديه الجميع أبو باسم، لا لوجودِ ابنٍ يحمل اسمه، وليس لشيءٍ سوى لبسمةٍ لا تفارق شفتيه، يتعذّر بكونها سُنَّة عن الرُّسول .
في آخر زقاقٍ في السوق يجلس أبو باسمٍ في محلٌّ صغير يصنع من أشجار الجوز أعواداً لمَن لا يزال ذوّاقاً في ما تبقّى من الموسيقى العربيَّة، وفي حلب هبّت أعاصير الدماء، دبّت الغريزة في ذقونٍ ظنّوا أنّهم يعرفون الله أكثر منّا، لقد اغتالوا الحياة فينا ونحن على قيدها. يفرضون شروطهم، وكأنّ الله دكتاتوريّ، رمادي الروح، كلّفهم القيام بمهامه السوداء على هذا الكوكب.
دخلوا المحل ولعنوا فنَّه الخشبي بكلّ أشكال الفؤوس، اجتاحوا مكانه الذي لم يبارحه طوال خمسين عاماً، ولم يتركوا له مكاناً لينوح فيه على ضياع مدينته. كانوا خمساً صغاراً في السن، لم يتسنَّ لآذانهم يوماً أن تتذوَّق مورفين الروح المسكوب من أوتار العود، عوداً تلو الآخر، انهالوا عليهم بالتكبير والضرب. شيئان لم يفهم أبو باسم ماهية العلاقة بينهما، حاول أن يخبرهم بأنّ هذه الأعواد عمياء الدين، أميّة المذاهب، لا تفقه لغة الطوائف، لكنهم انهالوا عليه بالضرب أيضاً، ورموه في إحدى زوايا السوق رميّاً، مزري الملامح.
بعدما تعبوا من تعذيب الموسيقى، أضرموا النار في محله أمام عينيه، وهدّدوه بقصم رقبته إن حاول مرّةً أخرى أن ينشر "الفتنة" في "أرضهم".
جلس وحيداً منكسر الخاطر على آخر حجرٍ تبقّى من المقعد العتيق، لا يعرف إن كان يستطيع البكاء أو اللطم أو الصراخ، أو ربما لن ينفع أيّ من هذا، فلا المحل سيفتح أبوابه، ولا الأعواد ستعزف مجدداً ولا المدينة ستعود إلى ما كانت عليه. رنا إلى بوابة محله المحترقة، مرّر يداه على سوادها، وهمس: إنّي يا غزال مثلك قد خسرتها، خسرت حلب.
دخل مشغله يغطي أنفه وفمه، هو ذاته لا يعلم إن كان بذلك يمنع نفسه من البكاء أم يمنع رائحة الرماد من التسلّل الى رأسه المتعب، أحسَّ بضعفه اللا متناهي أمام صغاره، كأنّ "جيبيتّو" ترك الأطفال يحرقون "بينيكيو" أمام عينيه دون أن يستطيع صراخه أن يحرّك الهواء بشكلٍ كافٍ لإزاحتهم عن الدكان.
لملم ما تبقّى من منشارٍ صغيرٍ وقلم زخرفةٍ، ثم عانق آخر ثلاثة أعوادٍ تبدو وكأنها نجت من الحادثة، أو تظن العود لا يشهد؟ العود هذا قد رأى كل شيءٍ، ولا شيء يشفي العنف الذي بصموه على هذا الجوز دون أن يمسّوه. انتظر حتى حطّ المساء وربط اثنين إلى ظهره، وواحداً إلى صدره، غطَّى نفسه بسجَّادة الصلاة التي كان يتصوَّف إليها ساجداً خمسُ مرَّاتٍ كلّ يومٍ في هذا الدكان.
تحمَّل رائحة أطرافها المحترقة، وتحمّل حرَّ المساء لخوفه من أن يراه أحدهم يحمل وتريات الشيطان هذه، ومشى في إحدى أحياء حلب، مشى عشرين دقيقةً حتى انهارت ركبتاه على أولى خطوات الدرج المهترىء، وتهاوت الأعواد على جانبيه لتتخبّط بجدران عمارة متهاوية.
أمسك بهامته ورفع رأسه مُرغَماً ثم جمع حِمله الثقيل ليندفع اندفاعاً بائساً على آخر درجتين توصلانه إلى باب الشقة التي يقصدها، فدقَّ الباب بجسده كاملاً يدفعه دفعاً، فتح له البابَ شابٌّ عشرينيٌّ ضعيفُ البنية منكوش الشّعر قد عَرف أبو باسم عنه فقط حبّه للشعر والموسيقى من أيّامٍ كان فيها صوتُ صراخ والدته يصدح مخترقاً الجدران، حين كانت توبّخه لكثرة مداومته على كتب الشعر بدلاً من كتبه المدرسية، وكانت حيناً آخر تصرخ حين ترى كتاب شعرٍ في حقيبته لتكتشف أنّه أنفق كلّ مصروفه على الدواوين.
"يا بني، إني لا أخاف على أعوادي، إني أخاف أن يأتي يومٌ على حلب تظلّ فيه بلا موسيقى. خذ هذه الأعواد واحرسها، فأنا قد هرمت وكسرني كسرُهُم للأعواد، وكسرني حملُها فوق ظهري إلى هنا، لم يعد بي حيل، لم أعد أستطع حماية الموسيقى، لم أعد قادراً، صحتي وقوّتي لم تعد... قل لهم أنّ حلب كان بها موسيقى، كان بها مشغل أعوادٍ وآذانٌ ذوّاقة ... احكِ لهم عمَّن قتل الموسيقى، إحكِ لهم كل شيء، قصَّة كلّ عودٍ، وكلّ وترٍ، فليست الناس وحدها من تطلب اللجوء!
1D944873-F72E-4250-B26E-8621B155EA8E
1D944873-F72E-4250-B26E-8621B155EA8E
يافا المصري (فلسطين)
يافا المصري (فلسطين)