شعارات المهرجانات السينمائية: بلاغة الأيقونة

شعارات المهرجانات السينمائية: بلاغة الأيقونة

14 سبتمبر 2018
روبيرتو بينيني في "كانّ" 1998 (فيسبوك)
+ الخط -
أسدٌ. دُبّ. نمر. فهد. مُهر. حصان. إلخ. رموزٌ مرئية بسيطة يُمكن التعرّف عليها بسهولة. أيقونات مشهورة تقدِّم معلومة موحية للمتلقّي، وتؤشِّر إلى معانٍ يعرفها البشر جميعهم منذ الأزل. أيقونات ضد التجريد الغامض والملتبس. 
تتمثّل وظيفة الأيقونات في التعريف بالمهرجانات بصريًا. هي مشهورة لعشّاق السينما. صارت علامة تجارية تضعها الأفلام المتوّجة على ملصقاتها لجذب الجمهور. علامة تحيط بها سنابل. إنها "علامات لها علاقة تَشَابه مع الواقع الخارجي" ("بحث في العلامة المرئية من أجل بلاغة الصورة"، مجموعة مو، ترجمة سمر محمد سعد، "المنظّمة العربية للترجمة"، بيروت، 2012، ص. 146). هي، بتعريف شارل ساندرز بيرس، علامة تقيم علاقة مشابهة مع موضوعها نفسه. المعجم الفرنسي يُقدِّم تعريفين للكلمة: صورة دينية مرسومة على خشب، ونموذج ـ قدوة يستحقان البيع.

يقوم مفهوم الأيقونة على علاقتين متمايزتين: التشابه والتمثيل. في التشابه، هناك رابط دلالي بين الأيقونة ومرجعها. بين الأسد في الغابة والأسد البابلي المجنّح الذي استعاره "مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي". وأيضًا، هي أداة تمثل وترمز إلى معنى مهرجان معين. يرمز الدب (برليناله) إلى القوة والصمود، والأسد المجنّح إلى الروح الحارسة، والسعفة إلى شموخ النخل (شموخ مهرجان "كانّ"). سعفة تقف على قلب صلب وتُخبر عن الحصاد السينمائي الوفير. الشكل هنا يُعلن المحتوى. الدال يكشف المدلول.

للجوائز شكل طبيعي. ينبغي عليها أن تدلّ. يقول أندره تاركوفسكي: "تتأسّس الصُور بواسطة الإيحاء" ("النحت في الزمن"، ص. 147). لكن، بمَ توحي هذه الصُور؟ ما المعاني القديمة والجديدة للأيقونة؟

عند تفكيك دلالة الأيقونة، يظهر الترميز والتلميح والاستعارة. الأسد والنمر والفرس حيوانات نبيلة لا خسيسة. لفهم الدلالات، يُطلب من المتلقّي أن ينزاح من المعنى الأصلي إلى معانٍ جديدة للأيقونة. ينزاح، لكن الربط يبقى: "إن الربط الإيحائي بين شكلين لا يعني فقط شعور المرء بوجود شيء مشترك بينهما، بل يعني أيضًا تشخيص طبيعة العلاقات التي تتحكّم في الروابط الإيحائية" ("علم اللغة العام"، فيرديناد دو سوسر، ترجمة يوئيل يوسف عزيز، سلسلة "آفاق عربية"، "دار آفاق عربية"، بغداد، 1985، ص. 157). لا توحي الأيقونات بمعانيها الأصلية في الطبيعة. لا يدلّ الأسد والفهد على حيوانات مفترسة. يفهم المُشاهد الدلالات الجديدة، لأن المجتمع ينسب إلى كلّ حيوان سمات معينة.

يتّضح من الأمثلة أن لأيقونات المهرجانات السينمائية أصولاً طبيعية ودلالات فلاحية، لأنه يسهل على المتلقّي الانطلاق من مرجع معلوم يُحفِّز الفهم والتواصل. تتشابه الأيقونات مع الواقع، بينما العلامات والرموز لا مرجع لها في الغابة. تهيمن الطبيعة على أيقونات المهرجانات، رغم أن الأفلام مَشاهد صناعية لا طبيعية.

الأيقونات هي كتاب الأميين والمتعلمين. تُغْني عن الكلمات التي تسمِّم الصور. لذا، لم تفقد السينما الصامتة تقديرها قط، فالأفلام الصامتة مدرسة لكل من يريد تعلم السينما. ليست صدفة أن يتزامن ازدهار السميائيات والسينما منذ بداية القرن الـ20. تحتاج المهرجانات إلى أيقونات لتعريف نفسها أكثر مما تحتاج إلى الكلمات. استعيرت الأيقونة من الدين، ويمكن تتبع التأثير الأسلوبي للأيقونات الدينية على اللغة السينمائية. ليست صدفة أن يأتي مخرجون كبار من مدن كاثوليكية مشهورة، وأن يقدّموا أفلامًا تحترم المقدَّس والسرد الديني الرسمي، كما في "ليالي كابيريا" (1957) لفيديريكو فيلّيني وكلّ أفلام تاركوفسكي.

يريد المنطق الديني أن يكون المُقدّس لا مرئيًا، بينما يحتاج الكهنة والسينمائيون إلى أن يكون المُقدّس والحكايات مرئيّة. تبتهج السينما بالتشيؤ، وهي لا تشترك مع الدين في التعبير بالأيقونات فقط، لأنّ هناك تشابهًا في الطقوس أيضًا، إذْ تجري مُشاهدة الأفلام في صمتٍ أقرب إلى الخشوع، بل يبدأ الخشوع منذ وطء البساط الأحمر، والمسار الطويل يُساعد على الدخول في حالة الخشوع تدريجيًا.

يبلغ الخشوع والوجد والرضا مداها حين يقف سينمائيٌّ لتُلتقط له صُوَر وهو يحمل سعفةً أو أسدًا أو حصانًا. ومع الصُوَر ابتسامات كبيرة. لكن، بعد الجوائز تأتي التجارة بوضع أيقونة المهرجان الذي منح الجائزة بين سنبلتين. في باب الحصاد، تتفوّق السعفة على الدبّ والأسد المجنّح في صفحات وسائل الإعلام. ومن فرط قوة أيقونة السعفة، قبَّل الإيطالي روبيرتو بينيني قدمي الأميركي مارتن سكورسيزي، رئيس لجنة التحكيم الخاصة بالدورة الـ51 (13 ـ 24 مايو/ أيار 1998) لمهرجان "كانّ" تعبيرًا عن الامتنان، وهذا بعد فوزه بالجائزة الكبرى عن "الحياة جميلة". شاهد بينيني الأقدام تُقَبَّل في روما، وهي مدينة لها أيقونة ذئبة مرضعة. بفعلته هذه، صنع "فضيحة صغيرة" شوّشت على منح "السعفة الذهبية" لليوناني تيو أنغيلوبولس عن "الأبدية ويوم واحد".

لزيادة المنافسة الرمزية، فإنّ كلّ واحدٍ من تمثالي الدبّ الذهبي والسعفة الذهبية يزن 118 غرامًا. لكن، ليست الجوائز كلّها التي توصف بالذهبية هي كذلك فعلاً. حتى حين تكون مصبوغة بالأصفر فقط، فإنّ الحاصل عليها يفتخر بأن فيلمه حائزٌ على "الذهب". يشير اللون هنا إلى قيمة الأيقونة. إنها غالية وأبدية مثل الذهب الذي لا يصدأ ولا يتغيّر. حاليًا، حتى التفاحة المعضوضة تلوَّن بالأصفر. فالصُوَر الذهبية أكثر تأثيرًا.

المساهمون