شروط المنصّة أم طقوس الصالة؟ مصير "مجهول" للسينما

شروط المنصّة أم طقوس الصالة؟ مصير "مجهول" للسينما

14 سبتمبر 2020
كايت بلانشيت وألبيرتو باربيرا في افتتاح "لا موسترا 2020" (تيزيانا فابي/فرانس برس/Getty)
+ الخط -

يُقال الكثير عن دور المنصّات والمواقع الإلكترونية في أمورٍ متعلّقة بإنتاج الأفلام والمسلسلات والسلاسل الوثائقية، كما بالمُشاهدة وآليات الاشتغال وكيفية المتابعة، ومدى تأثير هذا كلّه في مستقبل السينما والتلفزيون، اللذين يعرفان، في تاريخهما المديد، تحوّلات كثيرة، إيجابيّة وسلبيّة. منصّات ومواقع إلكترونية تفتح شاشاتها لمهرجانات سينمائية، يرتئي المشرفون عليها اختيار نمطٍ آخر من الاستمرارية، بهدف استكمال تواصلٍ سنوي معتاد بينها وبين السينما والمُشاهدين والنقّاد والمعنيين مباشرة بأحوالها وشؤونها المختلفة.

لكنّ تجربة "مهرجان فينيسيا السينمائي (لا موسترا)" تُعيد ـ في زمن تفشّي كورونا، مع ما يفرضه الوباء من سلوكٍ آخر للعيش والتواصل ـ إحياء المشهد المعتاد، وتؤكّد مُجدّداً أنّ للمهرجان أصولاً وقواعد وطقوساً وأمكنة ومسالك. فالدورة الـ77 مُقامةٌ في موعدها المُحدَّد سابقاً (2 ـ 12 سبتمبر/ أيلول 2020)، وفي صالاتها وأروقتها المعروفة، مع تغييرات يتطلّبها زمن الوباء. نجاحٌ في التنظيم منبثق من التزام صارم بمتطلّبات السلامة الصحيّة، رغم تراجع عدد الأفلام والبطاقات المبيعة عن أرقام دورات سابقة. تنظيمٌ يُعوَّل عليه في دورات ومهرجانات مقبلة.

يصعب اختزال تساؤلات كثيرة يطرحها الحضور الفاعل والمؤثّر للمنصّات والمواقع الإلكترونية، في يوميات أفرادٍ كثيرين في العالمين العربي والغربيّ. لكنّ الواضح، لغاية الآن على الأقلّ، يكمن في استحالة تجنّب هذا الحضور مستقبلاً، إذ إنّ تفشّي كورونا يُشكّل لحظة تحوّل جذري في الاجتماع والاقتصاد والثقافة والتواصل والعلاقات، كما في النظرة إلى الذات والآخر، وفي آليات العيش في عالم ما بعد الوباء. وإذ يعتبر البعض أنْ لا شيء مختلفاً في هذا كلّه، لأنّ العالم يعتاد تبدّلات جمّة تُصيبه غداة أزمات كثيرة، وبعضها أخطر من كورونا؛ فإنّ بعضاً آخر يستمرّ في طرح أفكارٍ وآراء منبثقة من تساؤلات يطرحها الوباء، ويسعى هؤلاء إلى فهم مضامينها، ومدى إمكانيات إحداثها تبدّلات جديدة (أتكون جذرية أيضاً؟) في أمور الحياة برمّتها.

مهرجانات تختار منصّات ومواقع إلكترونية لاستكمال مشاريعها السينمائية والتسويقية، ومهرجانات أخرى تنفضّ عن خيارٍ كهذا، وتُصرّ على تنظيم دوراتها في مواعيد محدّدة سابقاً، بالطريقة المعتادة. فللمُشاهدة والتواصل والنقاش طقوسٌ يصنعها المهرجان، ويحافظ عليها دورة تلو أخرى، ويرفض المسّ بها لكونها إحدى أبرز أساسيّات نشوئه وتطوّره واستمراريته ومعناه. لكنّ المنصّات والمواقع الإلكترونية "تُهدِّد" شيئاً من أفعالٍ سابقة على تفشّي الوباء، من دون تناسي أنّ حضورها سابقٌ عليه، وتأثيراتها حاضرة قبله، وأسئلتها مطروحة عشية انتشاره.

 

 

مع هذا، فإنّ مشهد "مهرجان فينيسيا" يمسّ إحدى ركائز المُشاهدة: أترفع الكمّامة حاجزاً بين السينمائيّ ومُشاهد فيلمه؟ بين المُشاهد والفيلم المعروض على الشاشة؟ بين الناقد والموزّع والمنتج والمُشاهد؟ داخل أروقة السوق والمنتديات؟ يرفض البعض حضور مهرجانٍ يعرض فيلمه، بحجّة أنّ الكمّامة المفروضة تحول دون تواصل مباشر مع مُشاهدين يناقشون فيلمه بعد العرض. هذا يحتاج إلى نقاشٍ أيضاً.

اكتساح المنصّات والمواقع الإلكترونية للمشهد السينمائي تحديداً مُخيف. كثيرون يشتركون في الأولى، وكثيرون أيضاً يهتمّون بالثانية، التي تضع أمامهم لوائح، تتجدّد بين فترة وأخرى، لأفلامٍ قديمة الإنتاج غالباً، في عالمٍ عربيّ يحاول تدارك خطورة ما يحصل بسبب الوباء. تجربة المُشاهدة المنزلية، المفتوحة على عروضٍ وأسواقٍ وتفاصيل عدّة، لن تنتهي قريباً، إذْ تُشكِّل جزءاً أساسياً من التفكير الفردي ـ الجماعي، خصوصاً في الغرب، حول أنماط الحياة واللقاءات بين الناس، ومدى استعداد المُشاهدين للتوجّه إلى صالاتٍ، في ظلّ اختبار قاسٍ للعيش مع كورونا. الالتزام الصارم بقواعد السلامة الصحية في "مهرجان فينيسيا" سببٌ لتراجع عدد مُشاهدي الأفلام في الصالات.

بعض تلك المنصّات معنيّ أيضاً بالإنتاج، ما يعني أنّ هناك طرقاً مختلفة تماماً في صناعة الأفلام. "نتفليكس" تحديداً "تؤمِّن" ميزانيات كبيرة لمخرجين عديدين يتمسّكون، سابقاً، بتقنيات السينما (إنتاجاً واشتغالاً وعروضاً ومُشاهدة)، فإذا بتلك الميزانيات تُغريهم لاختبار العمل مع منصّة، تُتيح لهم هامشاً كبيراً من حرية العمل. إذاً، كيف سيكون الإنتاج المقبل خارج المنصّات، بعد انحسار الوباء، أو القضاء عليه؟ من دون تناسي الحضور شبه الطاغي للمنصّات في الإنتاج السينمائيّ قبل تفشّيه؟

الأسئلة كثيرة. الإجابات منبثقة من وقائع، لكنّها عاجزة عن استكمال مضمونٍ يُجيب عن تلك الأسئلة بحسم ووضوح. التحوّل حاصلٌ، والمنصّات تزداد تسلّطاً، والسينما (كما التلفزيون) تحتاج إلى أشكالٍ أخرى للإنتاج والتعبير، والمُشاهدة ـ قبل الوباء وأثناء تفشّيه ـ تبلغ حائطاً شبه مسدود، والعودة إلى الصالات ـ التي يُصرّ عاملون في الصناعة السينمائية على ضرورة تحصينها من التغييب، رغم كلّ شيء ـ مضطربة، الآن بسبب سطوة كورونا على الحياة اليومية، ولاحقاً بسبب عادات التواصل عن بُعد بين الناس، وإلزامية التباعد الاجتماعي والوقاية الأساسية (كمّامات، قفّازات، تعقيم... إلخ)، إنْ استمرّت هذه الشروط في تحديد التواصل البشريّ ـ الإنسانيّ بين الأفراد.

العالم يتغيّر. الأسئلة كثيرة. السينما تُعيد اكتشاف نفسها ومقوّمات صمودها وتطوّرها وجاذبيّتها. الإنتاج التلفزيوني يواجه تحدّيات جديدة. المُشاهدة مُطالَبة بتبديل قواعد وطقوس. النقد مرتبطٌ بالمُشاهدة. المال في المنصّات وافر جداً غالباً، وشركات الإنتاج والتوزيع تعاني خسائر فادحة.

هذا كلّه يصبّ في تساؤل أخير: ما مستقبل السينما (والتلفزيون) بعد انحسار كورونا، والقضاء عليه؟

المساهمون