شجرة الفردوس الأرضي

شجرة الفردوس الأرضي

21 أكتوبر 2014
شجرة السرو، كانو إيتوكو (1590)
+ الخط -
لأننا نعلم بأن المفسّرين قد اختلفوا في ذلك وانقسموا حزبين كما هو مشهور. ولا الغاية منها أن أثبت لهم أيًّا من الأشجار كانت معرفة الخير والشر، فإن الآراء قد كثرت في هذا الصدد، وكلّ جماعة تؤيّد رأيها ببراهين تقرب من الصدق أو تبعد عنه قليلاً أو كثيراً تبعاً لما فيها من قوّة الاقناع. فمنهم من ادّعى بأنها نبتة الحنطة، وقالت جماعة بأنها الكرمة، وأثبتت فئةٌ بأنها شجرة التين، وبيّن قومٌ بأنها شجرة الكرز. وذهبت عصابةٌ إلى أنها البرتقال الهندي، وقد أوضح جمهور لا تعدّ أفراده ببراهين جليّة نيرّة بأنها شجرة التفاح.
وقد ارتأى فريقٌ من علماء الإنكليز الأعلام المحدثين، بأن شجرة الفردوس كانت البُرهامة. وهذا الرأي الفاسد الساقط هو الذي أريد أن أفنّده هنا، لقيامه على شفا جرفٍ هارٍ لا بل قد انهار. وكما أن مجرد القول بفسادِ الشيء الفلاني وسقطه لا يكفي لإقناع العاقل، فآتي السامع الناقد بالبراهين التي تثبت ذلك. وهذا الذي حداني إلى كتابة هذه الأسطر الوجيزة. فمن هذه البراهين:
1- أن ليس للبُرهامة ثمرة تستلفت الأبصار أو تستأسر الأفكار أو يبهج منظرها العين، أو يجذب عطرها أهل الزين والشين. فإنك إن عرفت ما هي البُرهامة تعجّبت من أناسٍ يتمسكون بهذا الرأي، وليس فيه من الحقيقة ما يشبه ظلّ الغمامة. فالبُرهامة شجرةٌ من فصيلة الفَّراشيّات من قبيلة السِدَرات، ومن ذلك نفهم بأن ثمرها يكون في غَلَفٍ أو سَنَفَةٍ لا تصلح للأكل أبداً، بل ربما صَلُح الزقوم للأكل بالنسبة إلى هذه. فكيف إذاً يعتقد العقلاء بأنها كانت شجرة الفردوس وليس فيها شيءٌ يجذب إليها النفوس. أيظنُ الإنكليز أن الأشجار تتحوّل عن أصلِها وجنسِها ونوعِها كلّ يوم، فتكون بيد الطبيعة بمنزلةِ الألعوبة بيد الطفلة، تقذفها كلّ يوم قذفةً، وتقلبها كلّ يوم قلبةً، فهذا مما لا يسلم به أهل النهى.
2- إن خبر وجود شجرة الفردوس في العراق لا يتعدّى سنة 1862م، إن في الكتب ومظانِ الأخبار، وإن في انتشاره بين ظهراني أهل هذه الديار. فكيف يمكن لإنسانٍ أن يقول هذا القول ويتطاول هذا الطول، أفيزعمُ أنه أنزل وحيه على قلبه وعلى قلب غيره في ساعة واحدة من الزمان، لما في معرفة موطن الفردوس من الأمور ذوات البال والشأن؟ فهذا مما لا يعتقد به أولو العرفان.
3- أن من يقف على كيفية شيوع خبر هذه الشجرة بأنها شجرة الفردوس، يضحك من عقول بعض السياح الذين يدوّنون الغرائب بدون أن يتثبّتوا الأمور ليطّلعوا على ما فيها من المعايب والشوائب. ويتقصّوا ما فيها من الحقائق الراهنة أو من دقائق الأكاذيب الواهنة. فإن العلماء الذين يقولون بهذا الرأي الخالي من كلّ سندٍ مكين، وينزلونه منزلة الحقّ المبين، يزعمون بأن من التقاليد الشائعة بين جمهور العراقيين من نصارى ويهود مسلمين، إن الفردوس الأرضي كان في البقعة المسماة اليوم بالقُرْنة، والحال إن هذا من الاختلاق المحض الذي لا أساسَ له، وإليك تحرير الرواية وأصلها وسبب نقلها عن ألسنة أهل العراق، على ما أثبته لي أحد الأثبات في هذا الصدد وهو الفاضل الأديب هنري زفو بودا، وكان قد شهد نشوء هذا الرأي إلى أن بلغ أشدّه، وهو إلى اليوم الكاتب الأول في أحد المراكب الإنجليزية في نهر دجلة.
"إن شركة إنكليزية وتسمى بشركة بواخر الفرات ودجلة الهندية المحدودة المبلغ، كانت قد حصلت على امتياز تسيير بواخر في هذه الجهات بدهاءٍ لا يُعرف إلا في الإنكليز وليس هنا محلّ تفصيله. وكان مركباها الأولان: مدينة لندن، المسمّى عند أهل بغداد مركب لندن، ودجلة. وكان غرّة سيرهما في وادي السلام سنة 1862، ولمّا كان الربّان هولند من الخبيرين في أحوال نهر الزوراء، انتدبته الشركة الإنكليزية المذكورة ليكون ربّانًا في مركب لندن، فقبل بذلك لأنه كان يقبض راتبًا من الحكومة الإنكليزية الهندية لتقعّده وأخذ يتسلم مشاهرة، من هذه الشركة أيضًا.
فبينما كان يومًا فرحًا مترنحًا إثر مشافهته لبنت العنقود، ومحادثته لرولانصن العلّامة التي تشهد بفضله جماعات من الشهود، وكان أهل المركب أحاطوا به عقودًا على عقود، بين وقوفٍ وقعودٍ، اندفع في كلامه ولا اندفاع السّيل الركام في تدفقه وازدحامه، وذلك عند بلوغه المحل المعروف بالصُريفة عند أهل المضارب على بعد ساعةٍ فوق مشهد عزرا الكاتب، فقال ما معناه متّبعين في ذلك مبناه :" ألا وأيم الله قد وصلنا بقعة قد شمل بها الأنس، الجنّ والإنس، طيبة الهواء ناعمة الثرى، تنفي عن القلب كل جوى، تلعب النسيم في رياضها وتترقص الأسماء في حياضها، وتشدو الصوادح في غياضها، وتصفق الأوراق عند مرور روحها على زلاله،ا وتتمايل الأطيار فرحًا على أفنان أشجارها أو تحت ظلالها، فترابها عنبر وحصباؤها جوهر وهو بين مُعصفر ومُزعفر، وشيطان أرضها وسنان، وملاكها يقظان. فما نحن إلا في فردوس عَدَن، صورة جنّة الخلد ذلك الوطن الذي قد نفي عنه كلّ وهن ودرن".
فتقدم منه رولانصن يتهادى ويتهاذى وقال له: كيف يا صاح تقول هذا؟، فهل لك على ذلك أدلّة تدعم بها نضيد مقالك. قال نعم وإليك إيضاح هذا المزعم. قد قيل في الكتاب الكريم المنزل على موسى الكليم:" وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الفردوس ومن هناك ينقسم فتصير أربعة رؤوس" وهذه الرؤوس الأربعة هي فيشون أو سيحون وجيجون ودِجلة والفرات. فإنك تعلم علم اليقين الخالي، من كل شبهة ومظنّة، بأن رؤوس دجلة والفرات هي عند قُرنة، وأما سيحون وجيحون فليسا إلا الصُويب وشطّ العرب الميمون. لأن فردوس النعيم لم يكن بقعةً صغيرة بل كبيرة. قال رولانصن وأخذ يتقصّى الخبر كل التقصي. وأين شجرة الفردوس التي لا يمكنك أن تأخذ بها في الدوس، فجعل يلتفت يمنى ويسرى خائفًا من أن يلبس ثوب الملامة. فرأى دوحةً عمرها ستون سنة اسمها بُرهامة. قال هذه هي شجرة الجنّة يا أيها العلم العلّامة والحبر البحر الفهّامة.
فما كان من رولانصن ألا ونمق تلك البراهين، معتقدًا بأنها لمذهبه الجديد بمنزلة الأساطين. فأذاع سنتئذٍ رأيه في الجرائد والمجلات. وتبعه من الإنكليز زرافات بعد زرافات. لمنزلة رولانصن من العلم، إذ يعدّ من الأثبات الثقات. وزاد على ذلك بأن محلّ الفردوس في نواحي القُرنة هو من تقليدات أصحاب تلك البلاد على اختلاف المعتقدات. وما زال الخبر في ازديادٍ وانتشار، حتى أصبح الإفرنج يقصدون هذه الديار. ليشهدوا ما فيها من أعظم الآثار، ألا وهي تلك الشجرة الغريبة بين جنس الأشجار المعروفة بالبُرهامة عند العرب، والمسمّاة عند الإنكليز بشجرة الفردوس الأرضي لهذا السبب، فاعتبر ذلك أيها العاقل وأمسك نفسك عن الضحك عمّا وقفت عليه من مختلقات الأفك وقلّ:"اللهم نعوذ بك من شرة اللَسَن وفضول الهذر كما نعوذ بك من معرة اللكن وفضوح الحصر اللهم آمين".

المساهمون