شتات الصور ورعب العيون

31 يوليو 2014

فلسطينيات أمام منازلهن المدمرة في بيت حانون(26 يوليو/2014/فرانس برس)

+ الخط -

ماذا لو لم تُخترع الكاميرا، بأنواعها، قبل أن يبدأ تاريخ المجزرة الفلسطينية، أو أي مجزرة بشرية في التاريخ الفوتوغرافي؟ سيكون الموت حكايةً من الحكايات المكتوبة، أو المروية شفاهة، وسيكون علينا أن نتخيّل أشكال الرؤوس المهشمة، والوجوه المشوهة، والأشلاء المقطعة، وأن نتخيل لوعات الأمهات، ودموع الآباء، ونظرات الرعب في عيون الصغار.. وكل شيء تنجح المجازر، عادة، في إنتاجه. سنكتفي بالخيال المنفرد لكل منّا على حده، كما نفعل مع كل الحكايات والأساطير، وحتى التاريخ العائلي القديم، على ألسنة الجدات الطيبات.

لن تحاصرنا شهقات موت حقيقية، ولا نظرات وداع عاجزة. لن نشم رائحة الدم الطازج، ولن نتشهى احتضان طفل يحتضر، ولا مشاركة أم في لوعة انكسار خفي، وهي تستقبل جثمان فتاها الأثير، على الرغم من صلابتها الظاهرة للمشيعين!

لا مفر ولا هروب. الفوتوغرافيا اللعينة لا تحتفظ بأجمل ذكرياتنا وحسب، بل بأوجعها أيضاً أحياناً. تغافل مهارة النسيان بأدق التفاصيل، فلا يعود لتلك المهارة معنى!

ومن غزة هذه الأيام، حيث يموت البشر بالجملة، بالفرد وبالعائلة الكاملة، أحياناً، يتدفق نهر الفوتوغرافيا الدامي، فلا يترك لتلك المهارة أية فرصةٍ، لتكون على أرض القلب.

لا تكاد تمر لحظة من لحظاتنا البشرية، إلا وكان للفوتوغرافيا منها نصيب ما، حيث تنحبس ضوئيّاً في مساحة اقتراضية من الوجود. لم تعد ألبومات الماضي البعيد حضناً كافياً لتجميع شتات الصور بالنظر، لكثرتها اللامعقولة، فكان قدرها أن تشاركنا العيش في حيز ما، ننظر إليه طوال الوقت.

من غزة، يسيل نهر الصور دماً ودماراً في الناس والشوارع والمساجد والبيوت. يختلط اللحم بالإسمنت والدم بالرمل والعظم بالطابوق، والغلبة، دائماً، لموت صاعقٍ، ينهي كل شيء بلا موسيقى تصويرية، ولا نحيب.

غزة مسرح الألم، في هذه الأيام، وعنوان الوجع كله، ترسل بصور أطفالها على هيئة جثث، وترسل جثث أطفالها على هيئة صور، فلا يعود الموت نادراً في شكله، ونحن نتعايش معه لحظة بلحظة، خبراً وصورة. أسماء حقيقية بوجوه تشبه وجوه أطفالنا وإخواننا وأزواجنا وآبائنا وأمهاتنا وأصدقائنا، وكل من نعرف. نقرأ الاسم لهذا الشهيد، فنستجمع شتات الذاكرة الموزع على شتات الأشلاء أمامنا لتسعفنا باسم نعرفه في مرحلةٍ من مراحل حياتنا، ينتهي بالاسم العائلي نفسه. تحاصرنا أسماؤهم، كما تحاصرنا صورهم، حتى لا نكاد نصدّقها تحت وطأة عجزنا الثقيل.

بعد أيامٍ من بداية العدوان الصهيوني على غزة، بدأت في الاحتفاظ بكثير من هذه الصور. أرى الصورة منها أول مرة عادة، فأضغط بسبابتي عليها عبر شاشة الآيباد، ثم أنقر على خيار الاحتفاظ بها. لا أدري كم حفظت من صور، لكن جهاز الآيباد خاصتي يكاد يميز غيظاً لكثرة ما ألقمته من وجوه مدماة، ورؤوس مهشمة، وأقدام وأذرع منفصلة عن أجسادها، وأجساد ملتحمة ببعضها، ككومة لحمة بلا ملامح واضحة، وأعين دامعة، ونظرات رعبٍ بقيت حية، حتى بعد أن ماتت العيون. لا أدري لماذا احتفظ بكل هذه الصور التي لا أحتمل رؤيتها عادة إلا مرة واحدة، وبشكل خاطف، قبل أن أقرر الاحتفاظ بها. هل أفعل ذلك كي أعود لأتعرف على أصحابها لاحقاً؟

أقلب كنزي الدامي من صور الآن بأحاسيس باردة ومحايدة. صورة الأطفال الأربعة على شاطئ غزة يلعبون في شريط تتابعت فيه لوعاتهم، قبل أن تستقر الروح عند بارئها، وتستكين الأشلاء في الذهول. صورة مولودٍ، أخرجه الطبيب حياً من جثة والدته التي مال نصفها تحت الأنقاض. صورة امرأة تمضغ فتات الحزن على كومةٍ من حجارةٍ كانت تسمى بيتها. وصورة أخرى لرجلٍ ناحلٍ، يفتش بين الحطام عما تبقى من حياة في صور وأوراق أهل هذا الحطام الذي كان يسمى بيتهم. وصورة لشهقة غضبٍ لا تكاد تتسع لها سماء، وأخرى لقدم صغيرة جداً لطفل لم يتبق منه سوى هذه القدم، حيث أمسكها أحدهم مصوباً إياها باتجاه العدسة! صور كثيرة لجثث صغيرة مكفنة، فرادى وجماعات.

لم تعد الصور في الأيام الأخيرة ترعبني، كما كانت تفعل بي سابقاً. أصبحت أتفحصها جيداً، وأعتني بتفاصيلها. أمسح بنظراتي الوجوه والعيون، أتمهل قليلاً، وأنا أركز نظراتي على العيون، أحاول أن أقيس حجم الرعب الساكن فيها، قبل أن تتسلل الروح خارجاً، وأنبهر من قدرة العيون على الاحتفاظ بذلك الشعور المباغت بالنهاية الدامية غالباً. عيون مغمضة أحياناً، ومفتوحة أحياناً أخرى، لكنها دائماً مغلفة بذلك الأسى المفاجئ في النظرات الأخيرة. عيون مرعبة تماماً لعينيّ المنطفئتين عجزاً وخجلاً، لكنني لن أخون تلك النظرات الأخيرة، وأغمض عيني بعد الآن أبدا!

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.