شباب يقتلون اللغة العربية

شباب يقتلون اللغة العربية

08 مايو 2020
+ الخط -
على رأي أمين معلوف: "لم تولد كل اللغات متساوية... لكنها تتمتع كلها على قدم مساواة بحق احترام كرامتها"؛ بعض اللغات حالفها الحظ في اكتساب منزلة أعلى من نظيراتها بفضل عامل أو آخر، ولكن وكما بيَّن معلوف، لا يحق لأحد أن يتعامل مع لغة غير لغته بالازدراء أو الاستخفاف، لكن كيف تُعَامل لغة قوم بكرامة إذا كان أبناؤها يقتلونها في مواضع الحديث الشتى على نحو يومي؟

في كثير من شوارع البلدان العربية، قلما تسمع جملة عربية قحة، خصوصا بين الشباب؛ فبين الكلمة وأختها تجد نتوءات لغوية على شكل كلمات إنكليزية، وهذا ليس نقدا ولا تعصبا للغة ولا رفضا لانفتاح، إلا أنه إذا أجلنا الطرف، فسنجد أننا فتحنا باب التأثرعلى حساب العربية حتى استهلكتنا اللغة الإنكليزية استهلاكا. وهذا ملحوظ عادة بين صفوف الشباب، خصوصا ذاك الذي يتشبع بعد محاضرتين في الأدب الإنكليزي بفكرة أن التحدث باللغة الإنكليزية مظهر من مظاهر المدنية والحضارة والتقدم، وينعكس هذا على مظاهر بعضهم وسلوكهم ومحادثاتهم إلى حد عدم خلو جملهم من "أوكي"، و"ذاتز إميزينغ"، "أند أي واز لايك...". 

هذه ليست سخرية، بل وصف لما تراه العين ويرفضه العقل فطريا.. وفي حديثي عن هذا، يأبى سؤال مغادرتي؛ سؤال ما إذا كان مواطن عادي من بلد متحدث بالإنكليزية، أميركا أو بريطانيا مثلا، يستعمل في تعامله اليومي مع الآخرين كلمات عربية، باستثناء تلك التي ترسخت منذ قرون عبر الترجمة يوم كانت العربية عروس اللغات... بل إنني سأفاجأ إذا علم الشخص ذاته عن ماهية العربية، أو عن المجتمعات التي تتحدثها، فقد لا يكترث حتى؛ هذا لا يُضَمِّن نكرانا لقدرة المثقفين ذوي اللسان الإنكليزي على التحدث باللغة العربية، حتى أن بعضهم قد يحرجون متحدثا عربي الأصل لشدة بلاغتهم وفصاحة لسانهم، وهذا طبعا تأثر إيجابي أكاديميا واعتراف ضمني بأهمية العربية وانبعاثها.

 

 لكن لو استمر حال الإصرار على استغلال كلمات إنكليزية في جملة يمكن أن تبلغ رسالتها بالعربية في المحادثات اليومية، فستموت العربية يوما ولن ندري هذا حتى. وإذا تجاهل القوم لغتهم، ألن يكون هذا انسلاخا عن الهوية؟ أليس التخلي عن اللسان القومي خضوعاً استسلامياً لسطوة العولمة وتأثير جانبها السلبي؟ حذار هنا، العولمة ليست في كل جوانبها مؤذية، لكن هذا يعتمد على قارئها ومحللها ومتلقيها؛ أيغربل العولمة فيأخذ منها ما يفيده أم يبيع هويته وهو لا يدري؟ 

 قد يدافع البعض عن استخدام الإنكليزية في المحادثات والتبادلات التواصلية اليومية، خصوصا بين الشباب، متحججا بأنه فرصة لتعلم لغة أجنبية، ولا وسيلة أنجع في تعلمها من استغلالها في مواقف وسيناريوهات واقعية يومية، وهذا طبعا أمر مرجح، لكن المواقف التي تعكس التخلي عن اللغة العربية ولهجاتها كوسيلة تواصل لا تضم نية التعلم هذه، والفرق بين الموقفين واضح. فرقة أخرى من المعارضين قد تتبسط في قولها إن استعمال كلمات إنكليزية بل وعبارات وجمل أمر دارج في العامية فقط، ولن يضر بالعربية أو يؤثر على ديمومة استخدامها، وقد يكون هذا مرجحا أيضا، إذ إن العربية أثَّرت زمان مجدها وتأثرت، فنجد فيها من الكلمات ما هو فارسي وتركي وغيره، ناهيك عن الكلمات الفرنسية والإسبانية التي علقت بلهجات بعض الدول العربية التي تعرضت للاستعمار، وتواصل استعمال العربية بالرغم من هذا التأثر، لكن نوعية التأثر الذي يتربص بها الآن هو سم سيقضي على تميزها ووجودها، وقد يؤدي إلى موتها في النهاية.

 لا بد من الإشارة إلى أن تسرب الإنكليزية إلى المجتمعات العربية ليس المشكلة بحد ذاتها، لكن المسألة متعلقة بنية التخلي عن اللغة العربية وتفضيل وتبني لغة أخرى.. وكلما قل عدد مستعملي لغة، ماتت اللغة نفسها، وهذا مآل لغات كثيرة لا داعي لذكرها، فهل ستواجه العربية المصير نفسه؟ ألن يكون في الأجيال القادمة نظراء لكنفاني والرفاعي وعاشور وشوقي، ولأناس عاديين أو بالأحرى شباب يتبادل الأحاديث بدون اللجوء إلى عبارات إنكليزية؟ 

اللغة وحدة انتمائية من مركب الهوية المعقد، مثلها مثل الدين والتقاليد وغيرهما، وهي نبات سريع الذبول إذا عدل المرء عن سقايته، فإن سرنا على صراط استخدام الإنكليزية بإصرار وبدون ضرورة في الأحاديث واللقاءات اليومية في الشوارع والأسواق وأحرام الجامعات في البلدان العربية، قتلنا العربية ببطء. طبعا، نعم لدراسة اللغات الأجنبية، والإنكليزية مشمولة، لكن لننمي اللغات القومية، وهنا لب الحديث العربية، ونطورها. رد فعل بعض المؤيدين على هذا قد يكون مفاده أن القول أسهل من الفعل، لكن الرد عليهم هو إنهم غير مطالبين ببناء مجاميع للغة العربية أو تجميع قواميس الفصحى أو العامية، بل وببساطة الحل كامن في الكتابة بالعربية، والتعبير والتحدث بلهجاتها، حسب البلد، دون إدخال عنصر إنكليزي غير ضروري، بين الشباب خصوصا، ومشاركة الأفكار ومناقشتها بها في التجمعات أو النوادي الشبابية، وعند الحاجة، الترحيب باستخدام اللغات الإجنبية بما في ذلك الإنكليزية... وتذكروا، إذا لم يولِ أهل العربية لغتهم الأهمية التي تستحقها، فما المُنْتظَر من غير قومها؟

إن انتشار الإنكليزية وتوغلها في العامية ليس متصلا بالعولمة وحسب، بل بما ولَّدته هذه الأخيرة من تفريقات بين "الجنوب" و"الشمال"، وبعبارة أوضح، فقد رسمت خطا فاصلا بين ما سمّته "التمدن" و"التخلف"، لذا رؤية شباب يتبادلون حديثا بالإنكليزية بنصف كلمة عربية وربع إنكليزية هو "سعي" منهم للحاق بركب التمدن، أو بالأحرى كسب اعتراف الآخر بتحضرهم إلى درجة اعتقادهم أن الحديث بالعربية مرادف للدونية والتخلف؛ واقع مؤسف جدا. السؤال المطروح هنا هو لماذا تبحث هذه الفئة من الشباب عن اعتراف الآخر بها؟

 تجوز أجوبة عدة عن هذا السؤال، وأحدها أن هذه الفئة تحس بالنقص وتعاني من غياب رجاحة العقل التي تمكِّن المرء من معرفة ما لا يسمنه ولا يغنيه من جوع،.. وإدراك أنه إذا كان الاعتراف بالأصل، عبر اللغة في هذا المقام، فضيلة، فالتخلي عنه ونكرانه مذلة.

CF86EF5A-21B4-4C0B-99D2-419E69E3D260
يسرى العيادي

مدونة ومترجمة حاصلة على شهادة البكالوريوس في الأدب الإنكليزي والماجستير في الترجمة.

مدونات أخرى