شاعران من الصين

شاعران من الصين

20 ديسمبر 2019
+ الخط -
تصنع المصرية الشابّة، يارا المصري، عملاً ثميناً، في نقلها نصوصاً من الأدب الصيني إلى العربية. أصدرت، في السنوات الأربع الماضية، تسعة أعمال مترجمةٍ من الصينيّة، في الرواية والشعر والقصة. واستحقّت، في أغسطس/ آب الماضي، جائزة الإسهام المتميز في الكتاب الصيني (فئة المترجمين الشبان)، التي تمنحها الحكومة الصينيّة. ومن حزمة أسبابٍ تجعل جهدها الراهن هذا ثميناً ندرةُ النصوص الأدبية التي تُنقل إلى العربية من الصينيّة مباشرة، وكذلك إتقانها (يارا) شُغلها هذا، سيما وأنها، على ما توضح، تتناقش مع صاحب النص الذي تترجمه، وتُحاور بشأنه زملاءَ وأصدقاءَ صينيين لها، قناعةً منها بأن على المترجم أن يبذل الجهد الكافي في كل مرّةٍ يترجم فيها كتاباً، ولو كانت خبرتُه طويلة. وتلتفت يارا إلى الأدب الحديث، أو الجديد ربما، في الصين التي لا يحظى النتاج الإبداعي فيها بانتباهٍ كافٍ، من أهل الثقافة وصناعة النشر بين ظهرانينا نحن العرب. وعلى ما تفيد المترجمة التي درست الصينيّة في مصر وتخرّجت في 2012، ثم درست في جامعةٍ في الصين، فإن انعطافةً عرفها الأدب الصيني في الثمانينيات، حيث ظهرت فيه أنفاسٌ وحساسياتٌ جديدة، ثم شهدت التسعينيات انشغالاً أكثر من كتّابه بالتفاصيل البسيطة للحياة اليومية.
أحدثُ ترجمات يارا المصري "معابد معتمة"، ويضم قصائد اختارها صاحبها نفسه، الشاعر شي شوان (1963)، و"شيء اسمُه حجر.. يليه كوكب مصر"، وهو مختاراتٌ من شعر أويانغ جيانغ خي (1957)، وكلاهما صدرا العام الحالي (2019) عن دار مسعى للنشر والتوزيع في أوتاوا بالتعاون مع جامعة بكين للمعلمين. وقد أهدي صاحب هذه الكلمات، في زيارته بكين أخيراً، نسختان منهما موقّعتان من الشاعريْن اللذيْن يأنس قارئ قصائدِهما بمقطعٍ بديعٍ من الشعر الراهن في الصين، سيما وأن مزاجيْهما غير متشابهيْن، وإنْ تجمعهما، إلى حدّ ما، الحميميّة التي يضفيانها على موجوداتٍ حواليهما، وعلى تفاصيل من الطبيعة. وجيّد من المترجمة المجتهدة أنها قدّمت للكتابين بإضاءاتٍ تسعف القارئ في التعرّف أكثر على مناخات الشاعريْن، ومصادرهما الثقافية وتجربتيهما عموماً، فضلاً عن مقدمةٍ لمختارات أويانغ جيانغ كتبها أدونيس بذائقة المحبّ المثقف، أكثر من حدس الناقد الكاشف.
ثمّة أنفاسٌ سرديةٌ، نثريةٌ ربما، ظاهرةٌ في قصائد كثيرةٍ للشاعر شي شوان، يبدو فيها منشغلاً بالحكي عن لحظةٍ، عن حالةٍ، عن برهةٍ فالتة، عن تحديقٍ في مشهدٍ ما، عن هاجسٍ ألحّ على مخيلته. الجملة الطويلة، والقصيرة أيضا، حاضرتان. وفي الصورة قدرٌ من المباغَتة، وهي مقتضبةٌ وغير مركّبة. ثمّة الغريب وغير المتوقع، وثمّة ما هو برقيٌّ وخاطفٌ، وأيضاً ما هو مسترسل. تُصادفُ بعض جغرافيا الصين وأنهرها وفلاسفتها. ذلك كله في لغةٍ عربيةٍ بالغة الصفاء، تُظهر أن الشاعر إنما ينجز في قصيدته التي تقرأ لغةً عالية الإيحاءات.. (في بلدٍ شاسعٍ رحبٍ/ يكون الشفق متّسعاً أيضاً/ تضيء القناديل/ والشفق ممتدٌ كفصل خريف...) هذه أول أربعة مقاطع لقصيدة "الشفق" التي يختتمها الشاعر بأنه (.../ وفي كل مرة يهبط الشفق/ يطرُق أحدُهم بخفّةٍ على باب بيتي). ولا يعني انشغال شي شوان بالشفق هنا أن شعره مطبوعٌ برومانسية من السّمت التقليدي العتيق إياه. لا شيء من هذا أبداً، وإنما يُؤشَّر هنا إلى قصيدته هذه للتدليل على تعدّد مساحات هذا الشاعر الذي يكتب، مثلاً، قصيدةً فائقة الأناقة، يسمّيها "مذبحة الفراشات على الزجاج الأمامي"، وقصيدةً تتمرّد على كل تعريفٍ للشعر، سمّاها "ملاحظات حول البعوضة".
منطقةٌ أخرى في الشعر الصيني الراهن يطلّ عليها قارئ ترجمة يارا المصري مختارات أويانغ جيانغ خي، والتي تتزامل فيها قصائد طويلةٌ مع أخرى قصيرة. وفي اللونيْن، يصنع هذا الشاعر عوالم مركّبةً بعض الشيء، لا تحفل بالتأنّق، وإنما بأحاسيس الذات تجاه الأشياء. وهذه قصيدته "مصنع الزجاج"، تقرأ فيها أن (.. في الأماكن التي يحتلّها الزجاج/ لا يكون الزجاج ذاتَه، بل يكون روحاً/ مثل الخواءِ ماثلٌ في جميع الأرجاء، ...). ثمّة كثيرٌ من الذهني والتجريد المعبَّر عنه بتصاوير وإيحاءاتٍ مربكة، مُلغزة أحياناً، غير أن الأهم أنها ترمي قدّام قارئها شيئاً من الدهشة، أو الفتنة الغامضة، أو ما لا يجعلك تنشدّ إلى تفسيرِه، وإنما إلى تذوّقه فحسب. يقول الشاعر في قصيدته "زجاجة الحبر" (الشتاء البعيد الذي يتموّج على وجه الورقة،/ سطوحُ البيوت التي رفعتها الرياح الهوجاء،/ كشفت عن رأس سنّ القلم المترع بالحبر).
.. شكراً، يارا المصري.

دلالات

358705DE-EDC9-4CED-A9C8-050C13BD6EE1
معن البياري
كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965. رئيس قسم الرأي في "العربي الجديد".